مقالات متنوعـة

لماذا أهوى القراءة ؟

Share

لماذا أهوى القراءة
 

أول ما يخطر على البال – حين يوجه هذا السؤال إلي أحد مشتغل بالكتابة – أنه سيقول أنني أهوى القراءة لأنني أهوى الكتابة ! ولكن الواقع أن الذي يقرأ ليكتب وكفى هو ” موصل رسائل

” ليس إلا أو هو كاتب ” بالتبعية ” وليس كاتبا بالأصالة فلو لم يسبقه كتاب آخرون لما كان كاتبا على الإطلاق ولو لم يكن أحد قبله قد قال شيئا لما كان عنده شيء يقوله للقراء وأنا أعلم فيما أعهده من تجاربي أنني قد أقرأ كتبا كثيرة لاأقصد الكتابة في موضوعاتها على الإطلاق.


 

وأذكر من ذلك أن أديبا زارني فوجد على مكتبي بعض المجلدات في غرائز الحشرات فقال مستغربا ومالك أنت والحشرات ؟ إنك تكتب في الأدب وماإليه فأية علاقة للحشرات بالشعر والنقد والاجتماع ؟

ولو شئت لأطلت في جوابه ولكنني أردت أن أقتضب الكلام بفكاهة تبدو كأنها جواب وليس فيها جواب .

فقلت : نسيت أنني أكتب أيضا في السياسة !
قال نعم نسيت والحق معك ! فما يستغني عن العلم بطبائع الحشرات رجل يكتب عن السياسة والسياسيين في هذه الأيام .

والحقيقة كما قلت مرارا أن الأحياء الدنيا هي مسودات الخلق التي تتراءى فيها نيات الخالق كما تتراءى في النسخة المنقحة وقد تظهر من المسودة أكثر ما تظهر بعد التنقيح فإذا اطلع

القارىء على كتاب في الحشرات فليس من اللازم أن يطلع عليه ليكتب في موضوعه ولكنه يطلع عليه لينفذ إلى بواطن الطبائع وأصولها الأولى ويعرف من ثم كيف نشأ هذا الإحساس أو ذاك

الإحساس فيقترب بذلك من صدق الحس وصدق التعبير ولو في غير هذا الموضوع .

كذلك لاأحب أن أجيب عن السؤال كما أجاب قارىء التاريخ في البيت المشهور :

ومن وعى التاريخ في صدره      أضاف أعمارا إلى عمره

فليست إضافة أعمار إلى العمر بالشىء المهم إلا على اعتبار واحد وهو أن يكون العمر المضاف مقدارا من الحياة لامقدارا من السنين أو مقدارا من مادة الحس والفكر والخيال لامقدارا

من أخبار الوقائع وعدد السنين التي وقعت فيها فإن ساعة من الحس والفكر والخيال تساوي مآئة سنة أو مئات من السنين ليس فيها إلا أنها شريط تسجيل لطائفة من الأخبار وطائفة من

الأرقام

كلا لست أهوى القراءة لأكتب ولا أهوى القراءة لأزداد عمرا في تقدير الحساب .

وإنما أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا وحياة واحدة لاتكفيني ولاتحرك كل مافي ضميري من بواعث الحركة
والقراءة دون غيرها هي التي تعطيني أكثر من حياة واحدة في مدى عمر الإنسان الواحد لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق وإن كانت لاتطيلها بمقادير الحساب .

فكرتك أنت فكرة واحدة
شعورك أنت شعور واحد
خيالك أنت خيال فرد إذا قصرته عليك
ولكنك إذا لاقيت بفكرتك فكرة أخرى أو لاقيت بشعورك شعور آخر أو لاقيت بخيالك خيال غيرك فليس قصارى الأمر أن الفكرة تصبح فكرتين أو أن الشعور يصبح شعورين أو أن الخيال يصبح

خيالين …

كلا . وإنما تصبح الفكرة بهذا التلاقى مئات من الفِكّر فى القوة والعمق والامتداد.
والمثل الأعلى على ذلك محسوس فى عالم الحس والمشاهدة ومحسوس فى عالم العطف والشعور.

ففى عالم المشاهدة يجلس المرء بين مرآتين فلا يرى انسانا واحدا او انسانين اثنين ولكنه يرى عشرات متلاحقات فى نظره الى غايه ما يبلغه النظر فى كل اتجاه.
وفى عالم العطف والشعور نبحث عن اقوى عاطفه تحتويها نفس الانسان فاذا هى عاطفه الحب المتبادل بين قلبين.
لماذا؟
لأنهما لا يحسان بالشىء الواحد كما يحس به سائر الناس
لا يحسان به شيئا ولا شيئين وانما يحسان به اضعافا مضاعفه لاتزال تتجاوب وتنمو مع التجاوب الى غايه ما تتسع له نفوس الأحياء.

هكذا يصنع التقاء مرآتين وهكذا يصنع التقاء قلبين.فكيف بالتقاء العشرات من المرآئى النفسيه فى نطاق واحد ؟وكيف بالتقاء العشرات من الضمائر والأفكار؟ أن الفكرة الواحدة جدول

منفصل.

أما الأفكار المتلاقية فهى المحيط الذى تتجمع فيه الجداول جميعا والفرق بينها وبين الفكرة المنفصلة كالفرق بين الأفق الواسع والتيار الجارف وبين الشط الضيق والموج المحصور.
وقد تختلف الموضوعات ظاهرا أو على حسب العناوين المصطلح عليها ولكنك اذا رددتها الى هذا الأصل كان أبعد الموضوعات كأقرب الموضوعات من وراء العناوين.

أين غرائز الحشرات مثلا من فلسفه الأديان ؟
واين فلسفه الأديان من قصيدة غزل أو قصيدة هجاء؟
وأين هذه القصيدة أو تلك من تاريخ نهضه أو تاريخ ثورة؟
وأين ترجمه فرد من تاريخ أمه!
ظاهر الأمر انها موضوعات تفترق فيما بينهما افتراق الشرق من الغرب و الشمال من الجنوب.
وحقيقه الأمر انها كلها مادة حياة وكلها جداول تنبثق من ينبوع واحد وتعود اليه.

غرائز الحشرات بحث فى اوائل الحياة
وفلسفه الأديان بحث فى الحياة الخالدة الأبدية
وقصيدة الغزل او قصيدة الهجاء قبسان من حياة انسان فى حالى الحب والنقمة
ونهضه الأمم أو ثورتها هما جيشان الحياة فى نفوس الملايين وسيرة الفرد العظيم معرض لحياة إنسان مميز بين سائر الناس
وكلها أمواج تتلاقى فى بحر واحد وتخرج بنا من الجداول إلى المحيط الكبير

ولم أكن اعرف حين هويت القراءة أننى ابحث عن هذا كله أو أن هذه الهوايه تصدر من هذه الرغبة
ولكننى هويتها ونظرت فى موضوعات ما أقرأ فلم اجد بينها من صلة غير هذه الصلة الجامعة وهى التى تتقارب بها عن فراشه والقراءة عن النعرى وشكسبير

لا أحب الكتب لاننى زاهد فى الحياة
ولكنى أحب الكتب لأن حياة واحدة لا تكفينى.

ومهما يأكل الإنسان فإنه لن يأكل بأكثر من معدة واحدة ومهما يلبس لن يلبس على غير جسدٍ واحد ومهما يتنقل فى البلاد فإنه لن يستطيع أن يحل فى مكانين.
ولكنه بزاد الفِكر والشعور والخيال يستطيع أن يجمع الحيوات فى عمر واحد ، ويستطيع أن يُضاعف فـِكره وشعورِه وخيالِه كما يتضاعف الشعور بالحب المُتبادل وتتضاعف الصورة بين مرآتين

____________________
بقلم : عباس محمود العقاد
 

Share
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error:
إغلاق
إغلاق