مقالات مُـنتقاة

الحب.احتياج بشري أم منتج تجاري؟

Share

الحب.احتياج بشري أم منتج تجاري؟

الحب احتياج بشري فطري يولد به الإنسان ، يؤكد ذلك تجربة شهيرة قام بها علماء النفس لبيان تأثير العاطفة في النمو ، أجريت التجربة علي مجموعتين من حديثي الولادة اللقطاء ، كانت الممرضات تعطي المجموعة الأولي احتياجاتها من الغذاء والرعاية فقط أم المجموعة الثانية فأضيف إليها الحب والهدهدة والمداعبة والابتسام وكل صور الأمومة الحانية وكانت النتيجة شديدة القسوة فبينما نمت مجموعة الحب نموا رائعا فإن المجموعة الأخري ذبلت وماتت ، ماتت بسبب الحرمان العاطفي .

وللحب مصادر متعددة أولها حب الله ورسوله ذلك الحب الذي يشعر المرء أنه يأوي لركن شديد وأنه إذا ضاقت به السبل يمكنه أن يرفع يديه للسماء داعيا ( يارب ) وإذا كانت الحضارة المادية قد استطاعت أن توفر الكثير من سبل التقدم والرفاهية للإنسان فإنها عجزت عن سد ثغرة الخواء الروحي وجعلت الإنسان يحيا في ظلها كأنه ( بينوكيو ) أو (رجل الصفيح وخيال المآته) الذي يشبه البشر تماما إلا أنه بلا قلب .

 

المصدر الثاني حب الوالدين وبرهما وأثره يتضح في الدنيا قبل الآخرة ، ثم حب الأبناء الذين هم امتداد للمرء ووسيلته للتخلص من الإحساس بعبثية الحياة القصيرة والتي سرعان ما يختتمها الموت ، إن دافع العمل من أجل الأجيال القادمة وتوريثهم خلاصة جهدنا من أهم أسباب الشعور باستمرارية الحياة والتفاؤل بالمستقبل .

يأتي بعد ذلك حب العائلة الممتدة عندما تجلس وسطهم تشعر أنك تنتمي لتلك ( الفصيلة ) بالفعل فلقد صار عمك شديد الشبه بوالدك رحمه الله أما ابن عمتك فهو نسخة منك في شبابك ، تستمتع بنوادر وحكايات العائلة وتسمع للمرة الألف قصة خالك عندما ضرب الحرامي وانبهرت العائلة بشجاعته ثم اكتشفوا أنه صديق اتفق معه علي هذه التمثيلية ليتخلص من شهرته بأنه يخاف من خياله ، تضحك من قلبك وأنت تستعيد التفاصيل من خالتك الصغري التي تخلت عن لقب ( جميلة العائلة ) بعد أن فعل الزمن أفاعيله .

حب الوطن والانتماء له مصدر هام للحب والفخر وتحديد الهوية ، في القائمة أيضا الجيران والأصدقاء والهوايات ، و أخيرا يأتي حب الزوج أو شريك الحياة ذلك الحب الخاص جدا والذي يستوطن بؤرة القلب بسهمه المعروف ، إنه حبيبك ونديم خيالك ونصفك الآخر وبه تكتمل منظومة الحب البشري التي ترتبط تماما بمعاني السعادة والنجاح والقدرة علي العطاء .

تم التركيز علي المصدر الأخير فقط واستغلاله تجاريا علي نطاق واسع ، فإذا أطلق لفظ الحب كان المقصود منه فقط حب الرجل والمرأة ، كل الأغاني والأفلام والروايات تدور حوله وتم تدويره والمبالغة فيه بكل السبل الممكنة وأحيانا غير الممكنة أيضا ومن هنا جاءت أزمة الحب ، فصار هناك من ينفر من كلمة الحب نفسها لما ترتبط به من معاني يرفضها وهناك من يغرق في الحب حتي يهلكه .

والحقيقة أن الشباب الحديث صار أكثر وعيا وتخلص من بعض المفاهيم الخاطئة التي ارتبطت بالحب زمنا طويلا ، فلم يعد مقبولا فكرة التمسك بشخص معين وحب مستحيل وإلا كان البديل هو الموت أو الجنون كما في قصص ( روميو وجولييت ) و ( قيس وليلي ) ، طبعا هناك جاذبية خاصة تجعل شخصا بعينه مقبولا وغيره مرفوضا ولكن تلك الجاذبية قابلة للتكرار بدليل أن الكثيرين يتزوجون ويقعون في الحب مرات عديدة طيلة حياتهم ، كما أن فكرة أن الحب يعلو ولا يعلا عليه أيضا صارت مرفوضة من شباب اليوم المستنير أكثر مما نتصور ، لن نجد حاليا ( الأميرة إنجي ) التي تصر علي حب ( علي بن الجنايني ) ، صار التكافؤ هاما مع جيل جديد عملي جدا .

ولكن الفكرة التجارية التي ما زالت مستمرة هي أن الحب بمعني الغرام هو مصدر السعادة الوحيد في الحياة ، تخبئ الفتاة الصغيرة أحلامها في وسادتها وتكبح مشاعرها بين جوانحها وتغذي خيالها بحب الأغاني والأفلام فإذا تزوجت ألبست زوجها ثوب فارسالأحلام وخلعت عليه تاج الجزيرة السحري ، ومن هنا تنشأ المشكلة .

إنها تغرقه بمشاعرها وتتوقع منه أكثر مما يسمح به واقع الحياة اليومية وبعد فترة العسل الأولي يصبح ذلك الاهتمام الزائد عبئا علي العلاقة الزوجية وحائلا دون نموها وتتطورها الطبيعي ، ومن ناحية أخري فإن كل مبالغة في اتجاه يصاحبها تقصير في اتجاهات أخري فلن نعطي باقي مصادر الحب حقها ، كما أن فرط الارتباط يحول دون نمو الشخصية المستقلة وتتحول تدريجيا لمجرد تابع أو ظل للزوج ، وإذا كان هذا يسعد بعض الأزواج في البداية إلا أنه سرعان ما يشعر بعبء تحمل شخص آخر لا يمكنه السير إلا مستندا علي عكازه وتزداد الأمور تعقيدا إذا صادفت الأسرة بعض المتاعب التي تحتاج يدين تدفعان سويا لأن يد واحدة لا تصفق .

الحب كالشهد الذي يجمعه النحل من كل الزهور الجميلة ثم يضخه عسلا مصفي وكلما تعددت مصادره ازدادت حلاوته وتأكدت فائدته ، أما الحب من مصدر واحد فهو راكد قليل الفائدة ، إذا لم تكن تحب انشغل بمصادر الحب الأخري فهي تغذي نفسك وقلبك وعندما تعثر علي الحب مارسه بقانونه الداخلي ولا تهمل باقي مصادره .

كل شئ في الدنيا له قانونه الداخلي الذي يحكمه ، والقانون العام هو العدل ، بمعني الاعتدال والوسطية ، حتي الحب فإن مقداره المضبوط هو المطلوب ، مقداره المناسب هو توقف قبل التخمة بخطوة وانشغل أحيانا بالمصادر الأخري ولا تنس أن تنمي شخصيتك وتطورها ثم تعيد الكرة وكأنك شخص جديد . والزواج كما يعرفونه حاليا هو علاقه بين راشدين يقوم كل منهما بدوره في الحياة علي أكمل وجه ثم يتعاونان فيما بينهما لتحقيق السعادة المتبادلة .

وإذا كان للحب معادلة فلن تكون واحد + صفر علي الشمال = واحد يحمل العبء كله ويمل من ذلك الحب المزعوم ، ولكنها ستكون واحد +واحد = اثنان ناجحان متعاونان يتنفسان حبا صحيا .

___________

إيمان القدوسي

 

Share
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error:
إغلاق
إغلاق