طوّر ذاتـك

إعداد الخطيب بين الموهبة والتدريب

Share

إعداد الخطيب بين الموهبة والتدريب
أ.د طلعت محمد عفيفى سالم
عميد كلية الدعوة الإسلامية جامعة الأزهر


بسم الله الرحمن الرحيم


(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)
صدق الله العظيم

الحمد للّه رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدو إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، جعل نعمة البيان في صدر نعمه التي تفضل بها على عباده، فقال في سورة الرحمن، والتيَ تشتمل على تذكير  الإنسان بنعم الله عليه:

(الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآن خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)( )

وأشهد أن محمداً عبد اللّه ورسوله، وصفيه وخليله، وهبه ربه ملكة البيان، وآتاه جوامع الكلام، فكان أفصح الناس لساناً، وأعظمهم خطاباً. صلوات ربى وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته ومن سار على نهجه واستمسك بسنته، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أرحم الرحمين .

وبعد

 

:
1- فإن الدعوة إلى اللّه تبارك وتعالى من أشرف الأعمال وأجلها، وصدق الله  إذ يقول:
(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )( )
أي: لا أحد أحسن ممن يفعل ذلك. وتشير آيات القرآن الكريم إلى أن الفلاح والنجاح حليف لمن يهب نفسه لهذا العمل، ويوظف طاقته من أجله، وفى هذا يقول رب العزة: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ( )
2- وتتنوع وسائل الدعوة إلى اللّه تبارك وتعالى، ومع تنوعها تبقى الخطابة من أبرز تلك الوسائل في نشر الإسلام، وتبليغ دعوته وتعاليمه إلى الناس، ومن أدلة أهميتها اهتمام الإسلام بشأنها، حيث جعلها واجبة مع فربضة الجمعة وفى صلاة العيدين، وذلك لما يرتبط بها من هدف سام وغابة عظيمة في حياة المسلمين، إضافة إلى استعمال الخطابة في كل أمر ذي بال، فهي لسان العزاء في المآتم، وسبيل المشاركة في الأفراح والتهاني، وهى عدة المصلح وسلاح الداعي في كل موطن يحتاج فيه إلى البيان.
3- ويرتبط نجاح الخطابة – كوسيلة من وسائل الدعوة – على مدى توفيق اللّه تعالى للخطيب لاضطلاع بهذه المهمة الصعبة، وتحمله للمسئولية بكفاءة واقتدار، فهو فارس الميدان، ومن خلاله تتحقق الأهداف. والتاريخ حافل بكثير من الأسماء التي لمعت في سماء الخطابة في  مجالات عدة،
 
كالدعوة والإصلاح الاجتماعي والإصلاح السياسي وقيادة الجيوش . . . الخ، وكان لها الأثر البارز في صناعة الحياة، وتغيير مجرى التاريخ.
4- ومن هنا تبدو أهمية إعداد أجيال من الأمة لتتولى هذه المهمة، بحيث يتم تعهدهم بالتدريب والممارسة، ومع مرور الوقت تصقل مواهبهم، ويتحسن أداؤهم.
ولنا في رسل اللّه وأنبيائه أسوة حسنة، حيتْ كان يتم إعدادهم قبل أن يبدأوا مهامهم في الدعوة إلى اللَه تعالي، وعلى سبيل المثال نذكر ما كان من شأن سيدنا موسى حين أرسله اللّه إلى فرعون، وكان الأمر يستدعى إعداداً خاصاً، فتوجه سيدنا موسى إلى ربه قائلاً:
(قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي)( )
5- وإن مما يساعد على التفوق في هذا المجال أسباب عدة، ومن بين تلك  الأسباب:
الوقوف على قواعد الخطابة، والإلمام بأصول هذا الفن، والذي يساعد الخطيب على تنظيم أفكاره، وترتيب معلوماته، ويوقفه على أنفع الأساليب وأجداها في مخاطبة الجماهير والتأثير عليهم، ويحذره من  العوامل التي تقلل من فائدته، وتضعف تأثيره.
6-ويسعدني أن أقدم هذه الدراسة التى تستهدف إلمام طالب العلم بأهم قواعد الخطابة للاستنارة بها، والاستفادة منها في تحسين أدائه بإذن اللّه تعالى، وقد أسميتها "إعداد الخطيب بين الموهبة والتدريب"  وحرصت علي التركيز.
 
الشديد في هذه الدراسة على الجوانب العملية في إعداد الخطيب، وأضربت عن كثير من المباحث التي تقل فائدتها العملية لطالب العلم، كالتعريف بالعلم وتاريخ نشأته ، وأنواع الخطب . . . . . . الخ.
ولا أدعي أنني في هذا المجال جئت بجديد، وإنما نظرت في ما كتبه السابقون – جزاهم الله خيرا – فنهلت من معينة، واغترفت من بحره، فأنا مدين لهم بالفضل بعد اللّه تبارك وتعالى، وإذا كان من ميزة في  هذا البحث – حسبما أرى فهي التركيز على الجوانب العملية والإعراض عما سواها، مع ربط ذلك – ما أمكن – بالواقع المعاصر، وصياغة المعلومات بطريقة مبسطة، تنأى عن التعقيد، وتبعد عن الغريب، وتشوق طالب العلم إلى أن بخوض هذا المجال، ويجتهد في أن يكون في مصاف المبرزين فيه بإذن اللّه تعالى.
7- وقد تم تقسيم هذا البحث إلى مقدمة , وثلاثة فصول ، وخاتمة.
أما المقدمة فقد اشتملت على أهمية الموضوع وعناصر البحث فيه.
وأما الفصول الثلاثة فقد تناول كل، واحد منها جانبا من الجوانب التي تقوم عليها الخطابة، و هي (الخطيب, الخطبة, المستمعون).
وأما الخاتمة فقد اشتملت على نتائج البحث وأهم التوصيات.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل هذا العمل في ميزان حسناتنا, وأن يجعله حجة لنا لا علينا, وأن ينفع به طلاب العلم في كل مكان, وأن يغفر لي ولوالدي ولأساتذتي وجميع من لهم حق علي,  ولسائر المؤمنين والمؤمنات, إنه ولي ذلك والقادر عليه, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العلمين.
أ.د /طلعت محمد عفيفى سالم
عميد كلية الدعوة الإسلامية بالقاهرة
جامعة الأزهر                                    
                                                                  

 
الفصل الأول الخطيب
* ويشتمل على المباحث التالية:
(1) مكانة الخطيب ومنزلته .
(2) مقومات الخطيب العقلية.
(3) مقومات الخطيب الأخلاقية.
(4) مقومات الخطيب البيانية.
(5) مقومات الخطيب الشكلية.
(6) حاجة الخطيب إلى الممارسة والتدريب.
(7) نماذج من خطب النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين كمنطلق للتدريب والممارسة.

<10>
<11>
المبحث الأول
مكانة الخطيب ومنزلته
<12>
<13>
مكانة الخطيب ومنزلته مما يعين الخطيب عن الاضطلاع بمهمته وتحمل مسئوليته أن يعرف عظم الرسالة التي يتحملها,ومدى التأثير الذي يحدثه إذا أخلص في عمله.
ويمكن تلخيص ذلك فيما يلي:
1- يمثل الخطيب في موقفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينوب عنه في دعوة الأمة إلى ما فيه خير الدنيا والآخرة, ويندرج بذلك في سلك المصلحين الذين قال الله فيهم: (إنا لا نضيع أجر المصلحين)( ).
2- يوجه الخطيب همته ويؤدي رسالته مع أشرف أجزاء الإنسان. روحه وعقله وقَلبه وضميره، وهو بهذا يقوٌم ما اعوج من سلوك الناس، ويردُ من شرد منهم عن الجادة، مع عظيم حبهم له، وجميل تقديرهم لنصحه، وبذلك يؤدى الخطيب خدمة جليلة لمجتمعه، لا تقل شأنا – بل تزيد – عن أفراد كثيرين يقدر المجتمع خدماتهم. يقول الدكتور عبد الجليل شلبي (أنت – يا خطيب المسجد – أشد فاعلية في نفوس الجماهير من رجل البوليس الحاكم، ورجل المباحث المستطلع، والوزير الآمر . . . إنك تقتلع جذور الشر من نفس المجرم وتبعث في نفسه خشية الله وحب الحق والعدل ومعاونة الناس والتخلي عن شيء من حقوقه مرضاة للآخرين, فأنت توفر على رجل البوليس والقائم على أمن الدولة جهدا كبيرا وأعمالا شاقة, وإن كانوا لا يشعرون. الناس لا يخافونك, ولكنهم يجلونك ويحبونك . إن ميدان عملك هو إصلاح الضمائر
<14>
وإيقاظ العواطف النبيلة في نفوس الناس، فعملك هو نفخ الروح في الأجساد، وبث الحياة في الأفراد) ( ).
3- يقف الخطيب من مستمعيه موقف الأمير، ويجلس الناس تحت قدميه مجلس الطلاب أو التلاميذ، يرمقونه بأنظارهم، ويشرئبون إليه بأعناقهم، ويلتزمون نصيحته، ويأتمرون بأمره، وكل هذا يعبر عن سمو رسالة الخطيب وعظم منزلته التي يفوق فيها من سواه من سائر الناس.  يقول الشيخ على محفوظ: "ما أعظم مكانة الخطيب في النفوس، وأنفذ كلامه في القلوب، وأشد إثارته للعواطف، والخطيب أمير القوم الذي تتجه نحوه أنظارهم وتحدق به أبصارهم، وتلتف حوله قلوبهم، وتترامى إليه آمالهم، يستلينهم بالقول إذا قسوا، ويستخضعهم به إذا عصوا، ويمتلك نفوسهم بالرغبة تارة وبالرهبة أخرى، وبنفخ فيهم وقت الحاجة روح الحماس، فيقذف بهم الجبال فيدكونها بين يديه، وبلين لهم بالقول فإذا استوهبهم الأموال – بل الأرواح – وهبوها له . فوالله إنها لمكانة سامية, وسلطان نافذ القوة في الأرواح, لا يدانيه نفوذ الأمراء وقوتهم الجبروتية في الأجسام"( ) ولعل من المناسب في هذا المقام أن نشفع الكلام النظري ببعض الكلمات والمواقف العملية التي تدعم في نفوسنا أهمية الخطابة، وتؤكد على دورها المؤثر في تغيير مجرى الأحداث، ونبدأها ببعض الكلمات:
أ- خير ما نستهل به كلماتنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم والذي جاء فيه عن عبد اللّه  
<15>
بن عمر رأى اللّه عنهما قال: " قدم رجلان من المشرق فخطبا فعجب الناس لبيانهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلمِ: إن من البيان لسحراً"( ).
ب- يقول هتلر الزعيم الألماني المعروف، وأحد أشهر الخطباء في العالم. "إن القوة التي حركت أعظم الانهيارات التاريِخية ذات الطبيعة السياسية والدينية كانت منذ بدأ التاريخ هي القوة السحرية التي تنطوي عليها الكلمة المنطوقة وحدها"( ).
ج- وفى تأثير خطب نابليون بونابرت في صناعة الأحداث يقول إميل لودفيج: " لقد حول بونابرت معاركه الأولى بسحر بيانه إلى انتصارات كبيرة، فجعل لها مكانا في التاريخ"( ).
وأما عن المواقف العملية فذكر منها هذه المواقف:
أولا: لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم يوم حنين، وأعطى المؤلفة قلوبهم دون أن يعطى الأنصار منها شيئا، قد بعضهم: لقي والله رسول اللَه قومه، فمشى سعد ابن عبادة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله, إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم حين جعلت الغنائم في قومك وفي سائر العرب ولم يكن فيهم من ذلك شيء, وحينئذ طلب منه النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع له الأنصار, ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم بينهم خطيبا, فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله, ثم قال:
<16>
" يا معشر الأنصار: ألم آتكم ضلالا فهداكم الله. وعالة فأغناكم الله, وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا. بلى. ثم قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟ قالوا وما نقول يا رسول اللّه؟ وبماذا نجيبك؟ قال: واللّه لو شئتم لقلتم فَصَدَقتمِ وصدّقتم. جئتنا طريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك، وخائفا فأمِّناك، ومخذولاَ فنصرناك. فقالوا: المن للّه ولرسوله. فقال صلى الله عليه وسلم: أوجدتم في نفوسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً أسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم اللّه لكم من الإسلام؟ أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير، وتذهبون برسول اللّه إلى رحالكم؟ فوالذي نفسي بيده لو أن الناس سلكوا شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار. فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظاً"( )أ. هـ
وبالتأمل في هذه الخطبة الجامعة نجد أنها أسهمت في تحويل مجرى الأحداث من الضد إلى الضد, فحولت الشاكين إلى معتذرين, والغاضبين إلى راضين, وهدأت نفوسهم الثائرة, وعبروا عن أسفهم لما حدث وإيثارهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أى شئ سواه  وذلك في صورة بكاء زادت حدته حتى اخضلت منه لحاهم.
ثانيا:
ومثل هذه الخطبة النبوية التي غيرت مجرى الأحداث خطبة سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكادت تحدث فتنة, وقد وقي الله
<17>
المسلمين شر هذه الفتنة بخطبة سيدنا أبي بكر رضي الله عنه، والتي جاء فيها قوله: "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت". والقصة بكاملها مذكورة في كتب التاريخ والسير.
ونخلص من هذا إلى أن المكانة التي يتبوأها الخطيب لا تدانيها مكانة, وأن تأثيره في الناس وسلطانه على قلوبهم ونفوسهم يبلغ مبلغا عظيما, وذلك مع كمال الحب له, وجميل الثناء عليه, وهذا فضلا عما أعده الله تعالى من جميل المثوبة وعظيم الجزاء لمن يبذلون جهدهم في هذا المجال طلبا لمرضاة الله, وانتصارا لدينه ودعوته, إذ أن كل ما ورد في القرآن أو السنة من ثواب أعده الله اللّه للدعاة إليه ينال الخطباء منه بنصيب وافر .  فإذا قال الله تعالى. (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)( ).
فالخطيِب هو أحد هؤلاء المفلحين باعتباره داعية إلى الخبر، آمراً بالمعروف، ناهيا عن المنكر.
وإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً . . ."( )  . . فأحد هؤلاء الدعاة إلى الهدى خطيب المسجد، وثوابه يتضاعف بقدر الاستفادة منه، والانتفاع به . . . وهكذا.
* فما هي أهم المقومات التي تساعد المرء على أن يكون له باع في هذا المجال؟
هذا ما سنشير إليه في المباحث التالية بإذن اللّه تعالى . . . . واللهّ تعالىِ هو المستعان.
<18>

<19>
االمبحث الثانى
المقومات العقلية للخطيب
*ويشتمل على النقاط التالية:

أولا: حبه لأداء رسالته وإقباله عليها بشغف.
ثانيا: عنايته بالثقافة والمعرفة فى جميع فروعها.
ثالثا:معرفة قواعد وأصول الخطابة
<20>
<21>
أولا: حبه لأداء رسالته وإقباله عليها بشغف
1- وتبدو أهمية هذا العنصر في أنه القوة الحاركة لحماسة الخطيب، و حمله على التفاني في عمله، وحرصه على إجادته والسمو به دائما.
2- والخطابة- في هذا المجال لا تخرج عما عهِدَ في حياة الناس، بشأن ما يقومون به من أعمال، فالواقع يشهد بأن المرء لا يجيد صناعة يكرهها، ولا يبرع في مجال ينفر منه، بينما حب الإنسان لعمله وتعلقه به يجعله مبرزاً فيه، وقادراً على الإبداع فيه.
3- ولنقارن- في مقام الخطابة خاصة – بين رجلين أحدهما يحب الخطابة وبتعلق بها، وآخر ينفر. منها ويكْره على ممارستها، فالأول يشتاق لمخاطبة الجماهير، ويألف صعود المنبر، ويشعر براحة وسعادة وهو يؤدى هذه الرسالة، ودائما يستعد لها بكثرة الإطلاع وقوة الملاحظة والتهيؤ لكافة الظروف بما يناسبها من الحديث.
وأما الثاني فهو إنسان غير صادق مع نفسه، ويتكلف أمراً شاقاً عليه، ولذلك فهو يجتهد فى الهروب من مواجهة الناس، وإذا خطب وهو كاره فلا ينفع مستمعيه بشيء لأنه لم يعد نفسه بدرجة لائقة، وتبدو كلماته خالية من أي تأثير، فيظلم بذلك نفسه ويظلم معه جمهور المستمعين الذين يأسفون على أوقاتهم التي ذهبت دونما فائدة.
4- ولا يقولن قائل إن حب الخطيب لرسالته يتأتى له إذا توفرت لديه موهبة الخطابة دونما سواه. وهذا الكلام صحيح في أهمية الموهبة والصفات الفطرية في أي خطيب، ولكن الموهبة في أمرٍ ما تتأتى بكثرة المران والممارسة والتدريب، والواقع يشهد بذلك . . . فالخطيب لا
<22>
يولد بارعاً مبدعاً، ولكنه يعاني ويكابد حتى يكتسب الخبرة, وتزول منه مظاهر الضعف والإرتاج.
يقول الشيخ على محفوظ "الخطابة ملكة نفسية لا نوجد دفعة واحدة، بل لا بد- لطالبها من الممارسة والمران كي تنمو مواهبه، وقد قال خالد بن صفوان. إنما اللسان عضو إذ مرنته مرن، فهو كاليد تخشنها بالممارسة، وكالبدن تقويه برفع الحجر والرجل إذا عودت المشي مشت"( ) . . وسيأتي مزيد بيان لأهمية التدريب فيما بعد إن شاء الله تعالى.
3- وإن مما يساعد الخطيب على أن تكون لديه هذه المحبة لأن يكون خطيبا أن يضع نصب عينيه أمور عدة نذكر منها:
أ- ما أعده اللّه تعالى من فضل للدعاة إليه، وتفوقهم في هذا المقام على سائر الناس، وقد أشرنا إلى طرف من ذلك في النقطة السابقة.
ب- أن ينظر في كتاب اللّه تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأحوال السلف الصالح في حبهم للدعوة إلى اللّه تعالى، وتضحياتهم فى سبيلها بالنفس والنفيس.
ونذكر من ذلك – على سبيل المثل – ما قصَّه علينا القرآن الكريم في سورة يس في قصة الرجل الذي دعا قومه إلى تصديق الرسل، وأعلن إيمانه بما جاءوا به، فما كان منهم إلا أن قتلوه، ففاز برضوان الله تعالى وأدخل الجنة . . قال تعالى. (وَجَاءَ مِنْ أقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُل يَسْعَى قال يَا قَوْمِ اتَبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتبعُوا مَن لاَ يَسألُكُمْ أجْرًا وَهُم مهْتَدُونَ " وَمَا لِيَ لاَ أعْبُدُ الذي فَطَرَنِي وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أأتَخِذ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدن الرَّحْمَنُ بِضُرّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنْقذونَ * إِنيِ إِذا لفِي ضَلاَلٍ مبِينٍ " إِنِّي آمَنتُ بربكم

<23>
فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادخُلِ الْجَنةَ قال يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين )( ). قال ابن عباس رضى اللّه عنهما. "نصح قومه في حياته بقوله (يا قوم اتبعوا المرسلين) وبعد مماته في قوله (يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين)( ).وقد كتب الشيخ محمد يوسف الكاندهلوى كتاباً عن حياة الصحابة أورد فيه العديد من المواقف الدالة على حرص النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على تبليغ الدعوة، وقد صدَّر حديثه عن ذلك بهذه العبارات. "كيف كانت الدعوة إلى اللّه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم أحب إلى النبي عليه السلام وإلى الصحابة رضى الله عنهم من كل شئ، وكيف كانوا حريصين على أن يهتدي الناس ويدخلوا في دين اللّه وينغمسوا في رحمة اللّه، وكيف كان سعيهم في ذلك لإيصال الخلق إلى الحق"( ). ثم شرع في سوق الأمثلة التي تفصّل ما أجمله في تلك الكلمات، فليرجع إليه من أراد المزيد.
6- لقد بلغ حب السلف الصالح لدعوة الخلق إلى الحق أن الواحد منهم ربما بذل من ماله ومتاع ليرغبَ الناس في الاستماع إلى نصائحه والاستفادة بتوجيهاته.وفى هذا يروى عن الزهري قال: "كان عروة (يعني ابن الزبير) يتألًف الناس على حديثه"( ).
<24>
فلتجعل – أخي الداعية الخطيب – هذه النماذج أسوة طيبة وقدوة صالحة تسعى إلى التشبه بها في حبهم للدعوة وتفانيهم في البذل والتضحية لأجلها، ومن سار على الدرب وصل.
ثانيا: عنايته بالثقافة والمعرفة في جميع فروعها
1- في إطار حديثنا عن موقع الخطيب ومنزلته بيناً أنه يحظى بمكانة عظيمة لدى مستمعيه، فهو إمامهم الذي يرشدهم، وقائدهم الذي يوجههم.
2- لكن هذه المكانة تتناسب تناسبا طرديا مع مجموعة من العوامل، تزيد بزيادتها، وتقل بقلتها، ومن أهم تلك العوامل تمتع الخطيب بالثقافة العالية، وإلمامه بالمعرفة في كافة الجوانب.  
وتبدوا أهمية هذا الأمر من خلال ملاحظة ما يلي:  
أ- أن الخطيب يقف من جمهوره موقف المعلم والأستاذ، يعلمهم ما يجهلون، وينبههم إلى ما هم عنه غافلون، فإذا حدثهم بما يعرفون، وكرر على أسماعهم ما يفهمون، أعطوه آذانهم وانصرفوا عنه بقلوبهم، وضاقوا به ذرعاً وفشل في أداء رسالته، وأخفق في القيام بمهمته.
ب- أن مجال الخطابة واسع، وموضوعاته لا تقتصر على جانب دون آخر, فهي تتناول جميع الشئون الدينية, ولا يتيسر ذلك دون أن يتمتع الخطيب بثقافة عالية, بحيث يقنع كافة مستمعيه, ويدخل بذلك إلى قلوبهم.
3- لأجل ذلك وجب على من يتولى مهمة الخطابة أن يتقن عمله، وذلك بكثرة الإطلاَع وسعة المعرفة وجودة الإعداد لما هو بصدد الحديث عنه، وألا يفضح نفسه بسطحية معلوماته أو ركاكة ألفاظه أو ضعف معلوماته أما جمهور المصلين الذين قد يوجد من بينهم الطبيب والمهندس والكيميائي وغيرهم من فئات المجتمع, ولن يحظى الخطيب باحترام هؤلاء أو غيرهم إلا إذ شعروا بتفوقه عليهم, سواء فيما يعطيهم من معلومات, أو يتصف به من أخلاق.
 

<25>
4- وفيما يلي نتعرف على أهم ما ينبغي أن يهتم به الخطيب من معلومات تعينه على الإجابة والإفادة في رسالته.
(أ) القرآن الكريم:
واهتمام الخطيب بالقرآن، ينبغي أن يكون في قمة اهتماماته، وذلك لما يتمتع به القرآن الكريم من مميزات عدة تنضح على الخطيب بآثارها وفوائدها، فترابط الأفكار، وقوة الأدلة، وروعة الأسلوب، ومراعاة أحوال المخاطبين . . . الخ كلها فوائد يحصِّلها الخطيب بحفظه لكتاب الله تعالى واهتمامه بتفسيره والإحاطة بمعانيه ومراميه.
وعليه – في هذا الجانب – أن يتقن حفظه لما يتلوه من آيات، فإن اللحن في كتاب اللّه تعالى يسقط الخطيب من أعين مستمعيه، ولن يلْتَفتَ بعد ذلك إلي ما يسوقه من فوائد.
وقد مثلَ الخطيب الذي لا يحفظ القرآن ويرد منه الخطأ دائما حين يستشهد به بالرجل الذي يتحلَّى بثوب حسن في الظاهر، ولكنه لا يكتسي تحته بإزار، فإذا لفحته الريح كشفت عورته، وأبانت عن سوءته.
ومع حفظ الخطيب للقرآن الكريم تبقى كتب التفسير زاداً له لا يستغني عنه، ينهل من معانيها، وبقطف من ثمارها، وأصحها في هذا المجال تفسير ابن كثير، فهو وسط بين الإطناب والإيجاز، وبتمتع بحاسة النقد لما يورده من آثار،  
<26>
فإذا أريد الاقتصار على أحد التفاسير فليكن هو، وإلا فلا غنى عن الاستفادة من غيره.
(ب) السنة النبوية: والسنة هي المنبع الثاني الذي لا يستغني الداعية عن أن يغترف من معينه، فإن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هو أعلم الناس بكتاب اللّه تعالى، وهو الذي قال اللّه في حقه ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)( ). وقد تحدث الأئمة عن مكانة السنة وأهميتها وضرورة العمل بها كالقرآن سواء سواء، وليس هنا مجال التفصيل، وإنما نستشهد بأحد أقوالهم في هذا المجال لما له من أهمية فيما نحن بصدده. يقول الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: "سن رسوله اللّه صلى الله عليه وسلم وولاة الأمور بعده سنناً، الأخذ بها تصديق لكتاب اللّه، واستعمال لطاعة اللّه، وقوة على الدين، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبعِ غير سبيل المؤمنين ولاه اللّه ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيراَ"( ). ومن خلال هذا القول الكريم يتضح لنا دور السنة وأهميتها في دين الله تعالى، ومدى حبة الداعية إلى معرفتها، والاعتماد عليها في شواهده وأدلته. وقد استوعبت السنة كافة منمى الحياة. اجتماعية واقتصادية، وسياسية، وعسكرية، وأخلاقية . . . . . الخ بحيث لم يدع النبى صلى الله عليه وسلم خيرا إلا ودعانا إليه, أو شرا إلا ونهانا عنه.
<27>
فعلى الخطيب أنا يعيش مع السنة في مصادرها، بحفظ رواياتها، وبدعم أدلته بأحاديثها، وبذلك يضفي على خطبته جمالاً وجلالاً. وعلى الخطيب – في هذا المجال – أن يتحرَّى الصحة لما يذكره من أحاديث, وأن يتجنب ما حكم عليه العلماء بالضعف أو الوضع. ويمكنه أن يعتمد في هذا على الكتب الصحيحة كالبخاري ومسلم، وهناك مختصرات لهذين الكتابين قامت بحذف المكرر وحذف الأسانيد تيسيراً على طلاب العلم، وأهمها: التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح للزبيدي، وهو مختصر لصحيح البخاري، وكذلك مختصر صحيح مسلم للمنذري. وهناك كتب رتبت أبوابها موضوعياً كرياض الصالحين للإمام النووي والترغيب والترهيب للحافظ المنذري( )وهى تسعف الخطيب في توفير الأدلة بين يديه فيما هو بصدد الحديث عنه.. ومع المتون توجد الشروح مثل فتح الباري على صحيح البخاري وشرح النووي على صحيح مسلم، وغير ذلك كثير مما لا يستغني عنه الداعية الخطيب.  
(ج) السيرة النبو يه والتاريخ الإسلامي: تعدَّ السيرة النبوية هي الصورة المثلى لتطبيق الإسلام في شخص النبي صلى الله عليه وسلم، فقد سئلت أم المؤمنين عائشة رضى اللّه عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم
<28>
فقالت للسائل: ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى. قالت: فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن( ) وسيجد الداعية الخطيب في السيرة النبوية علاجاً لكافة المشكلات، وحلاً لكَل المعضلات، مع التعامل مع المواقف! من منطلق الأخلاق العالية التي كان يتصف بها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيتزود الخطيب بزاد وفير من القيم والأخلاق.
وننصح في هذا المقام بقراءة كتاب الإمام ابن القيم (زاد المعاد في هدى خير العباد) فهو توظيف جيد لأحداث السيرة النبوية، يعتمد فيه المؤلف على التحليل والترجيح والنقد، وكل ذلك مما يخدم الداعية في رسالته. ولا يستغني الخطيب عن قراءة التاريخ الإسلامي، والتعرف على الأحداث وتسلسلها، والعبر المأخوذة منها، وصدق من قال: اقرأ التاريخ إذ فيه العبر.. ضلَّ قوم ليس يدرون الخبر وقراءة تاريخ العلماء والزهَّاد والمصلحين في كل مجال، وأخذ العبرة والعظة من كلماتهم ومواقفهم من الأشياء الهامة لمن يتصدرون للدعوة والخطابة. وننصح في هذا المقام بقراءة كتاب (حلية الأولياء) لأبي  نعيم، أو المختصر له (صفه الصفوة) لأبي  الفرج ابن الجوزي
(د) الثقافة اللغوية والأدبية: إذا كانت حاجة الخطيب إلى المعاني الجيدة ليفيد بها جمهوره أمراً لا غنى عنه, فإن حاجته للألفاظ التي تكسو هذه المعاني بهاء وجمالا لا تقل أهمية.
<29>
وعلى ذلك ينبغي على الخطيب أن ينتقى ألفاظه، ويجود أسلوبه ويهذب عباراته، ولا يتأتى ذلك إلا بكثرة المطالعة في كتب الأدب (شعراً ونثرا) بحيث ينتقى منها أجودها، وان يسوقها في موضوعها، فتطرب لذلك الأسماع، وتتأثر بذلك القلوب.
ويمكن للخطيب أن يقرأ كتابا يفيده في هذا مثل. أدب الدنيا والدين للماوردي، أو روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لابن حبان البستي، فإذا أراد المطولات فليرجع إلى كتاب كالعقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي، أو البيان والتبيين للجاحظ.
كما أن عليه أن يتجنب اللحن والخطأ في عباراته، بحيث تبدو كلماته منضبطة وفق قواعد اللغة العربية (نحوها وصرفها) ومن أقوال العلماء في ذلك: "اللحن كالتفتيقَ في الثوب، والجدري في الوجه".
ومما يساعد الخطيب على ذلك أن يتعلم قواعد اللغة العربية من أي كتابٍ كان، ثم يركز على التطبيق العملي، بحيث يعرب كل كلمة يقولها، ويضبطها وفق القواعد التي تعلمها، ولا بأس من الاستعانة في هذا المقام بمن سبقه إلى تقويم لسانه ليتدرب على يديه، حتى يستقيم لسانه، وتصبح العربية عنده ملكة وطبيعة. وسيأتي مزيد بيان لهذه النقطة فيما بعد إن شاء الله.
(هـ) علوم أخرى:
1-لا غنى للخطيب – فوق ما سبق ذكره – عن الإلمام بالأحكام الشرعية التي كثيرً ما يتعرض للسؤال عنها، وذلك بدراسته للفقه الإسلامي بأقسامه المختلفة كالعبادات و المعاملات، وأحكام الأسرة,

<30>
والحدود، والإيمان والنذور . . . إلخ . . بحيث لوا ستفتى في مسألة أمكنه أن ببين حكم اللهّ فيها.
2- ويحتاج الداعية إلى القراءة في كتب السلوك، ومن أهمها إحياء علوم الدين للغزالي، على أن يسأنس بتخريج أحاديثه للحافظ العراقي، أو يقرأ مختصراته كمختصر منهاج القاصدين للحافظ المقدسي أو كتاب السلوك الاجتماعي في الإسلام للشيخ حسن أيوب، أو خلق المسلم للشيخ محمد الغزالي أو تربية الأولاد في الإسلام لعبد الله ناصح علوان.
3- كما يحتاج الداعية إلى الإلمام بطرف من العلوم الموسومة بالعلوم الإنسانية، وهى علم النفس وعلم الاجتماع، ليقف من خلالهما على أداء النفس والمجتمع وعللهما والطرق المناسبة لعلاجها، وذلك من خلال النظرة الإسلامية التي تنضبط وفق القرآن الكريم والسنة المطهرة وتوظيف ذلك في خدمة دعوته.
4- كما يحتاج الداعية إلى معرفة عقائد الآخرين- ولو على سبيل الإجمال – ليبرز جمال الإسلام وبدفع الشبه التي تثار ضده، وحتى بتمكن من المقارنة في أي موضوع يتناوله على وجه ينتصر فيه للحق وفق القواعد العلمية والمنهجية
5- ولا غنى للداعية كذلك عن معرفة الأفكار والتيارات المعاصرة كالشيوعية والوجودية والرأسمالية وغيرها، وأن يقرأ الواقع الذي يعيشه بسلبياته وإيجابياته، وما يعانيه المسلمون في عالم اليوم من مشكلات، بحيث لا يكون بعيداً عن هذه الأحداث، وأن ينفعل بها وبتفاعل معها، مثال ذلك قضية فلسطين وما يحدث بشأنها وما يجرى على أرضها, وكذلك سائر القضايا الإسلامية الساخنة على الساحة.

<31>
والخلاصة أن سعة المعرفة وتعدد أوجه الثقافة ضرورة لا يستغني عنها الخطيب، ولا يتوقع نجاحه بدونها.
ومن ثمَّ يلزم الخطيب أن تكون لديه مكتبة عامرة بالكتب الإسلامية في شتى الفنون، وان يقضى بين تلك الكتب أوقاتا كثيرة يقرأ فيها ويحفظ منها، ويفيد من ذلك عشَّاق المعرفة وطلاب الحقيقة الذين هم أمانة في عنقه، وسيحاسبه اللَه تعالى على ما بذل من جهد لإفادتهم وتوجيههم.
ثالثا: معرفة قواعد وأصول الخطابة
إذا كان حب الخطيب لأدائه لرسالته، مع اتساع ثقافاته وتنوع معارفه أمرين لابد منهما – كصفات عقلية – لا غنى عنها لأي خطيب، فإن مما يعين على الكمال في هذا الجانب أن يطلَعَ الخطيب على ما كتبه أهل هذا الفن من قواعد وأصول تعين على الإجادة فيه.
إن معرفة الخطيب بتلك القواعد والأصول تساعده على تنظيم فكرته وترتيب عناصره، وتطلِعهَ على أفضل السبل في التعبير عن موضوعه، وتوقفه على أنجح الطرق للتأثير على مستمعيه والنفاذ إلى قلوبهم.
ومن البدهي أن هذه القواعد وتلك الأصول لن تصنع بذاتها من الإنسان خطيباً، ولكن لابد من توفر عناصر أخرى أساسية – كتلك التي أشرنا إليها من قبل – ونحن نجد أن تَعَلّمَ العروض والقافية لا يجعل من الإنسان شاعراً، وليس كل من عرف النحو سلم من اللحن، فلابد- إذن- من تضافر مجموعة من العناصر لإيجاد الخطيب الناجح، ومنها معرفة قواعد وأصول هذا الفن، والتي سنتعرض على ما يخص الخطيب منها في هذه الصفحات.

<32>
" إن من يقول بالفطرة المجردة للخطيب لا يلامس الصواب في شئ، لأن معنى ذلك إلغاء دور التربية وأثرها في تكوين الإنسان وتنشئته، مع أن أثرها لا ينكر أبداً" ( ).
وعلى هذا نكون تلك القواعد والأصول هادية ومرشدة لا موجدة ومنشئة، تنير السبيل للراغبين في سلوكه، وتوضح الطريق للسائرين فيه.
ولذا فقد أحسنت كليات الدعوة وأقسامها حين وضعت ضمن خطتها الدراسية مادة الخطابة، كي تساعد الطلاب – من خلال الدراسةَ النظرية والتطبيقية- على أن يكونوا خطباء مؤهلين للقيام بتلك الرسالة العظيمة، ويبقى على طلاب العلم أن يشمروا عن ساعد الجد ليقوموا بواجبهم في خدمة دعوتهم ونصرة دينهم إذا أرادوا أن يكونوا من هذه الأمة التي وصفها الله – دون سائر الأمم – بأنها خير الأمم، وعلل ذلك بكونها أمة مؤمنة آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر.
ورد عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه حج مَرَّة فرأى من الناس دعة، فقرأ هذه الآية:
(كُنْتُمْ خَيْرَ أمةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَاسِ تَأمُرُونَ بالْمَعْرًوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وتؤمنون بالله )( ).
ثم قال. "من سَرَّه أن يكون من هذه الأمة فليؤدِّ شرط الله فيها"( )
<33>
المبحث الثالث
المقومات الأخلاقية للخطيب
* ويشتمل على الآتي:
أولا: حسن السيرة, وسلامة السريرة.
ثانيا: الثقة بالنفس والجرأة في مواجهة المشكلات.
ثالثا: الاهتمام بأصول الناس والمشاركة الوجدانية لهم.
<34>
<35>
أولا: حسن السيرة، وسلامة السريرة:
1- يقف الخطيب بين جمهوره، ويلقى إليهم بنصائحه، سالكاً مسلك الترغيب مرَّة، والترهيب أخرى، ويقرأ على مسامعهم ما يتعلق بموضوعه من آيات وأحاديث وآثار وغير ذلك.
2- ويخطئ الخطيب حين يظن أن مهمته مقصورة على تلك الكلمات التي قد يجيد إعدادها، ويحسن إلقائها وعرضها، تم ينتهي الأمر عند ذلك؟
3- والواقع أن الخطيب – كرجل داعية – يجب أن يقّدِّم بين يدي كلماته قدوة صالحة, وأسوة طيبة, بحيث تخرج الكلمات من قبل منفعل بها, ويعبر عنها لسان صادق اللهجة فيها, وبذا تتأثر بكلامه القلوب, وتنفعل بصدق حديثه النفوس,وهذا ما أشار إليه أرباب التربية والتوجيه.
يقول يحيى بن معاذ رضى الله عنه: "القلوب كالقدور في الصدور تغلي بما فبها، ومغارفها ألسنتها، فانتظر الرجل حتى يتكلم، فإن لسانه يغترف لك من قلبه، من بين حلو وحامض، وعذب وأجاج، يخبرك عن طعم قلبه اغتراف لسانه"( ). و إلى نفس المعنى يشير شهر بن حوشب رضي الله عنه بقوله. "إذا حدث الرجل القوم فإن حديثه يقع من قلوبهم موقعه من قلبه"( )  
4- بضاف إلى هذا واقع الناس الذي يتتبع سلوك الدعاة والمرشدين،  
<36>
وبثبت تأثرهم بمدى تطبيق الداعية لما يدعو الآخرين إليه، ويتفق الناس جميعاً- على اختلاف أزمانهم وأماكنهم – على تلك الحقيقة، وهذه بعض الأدلة.
أ- فهذا سيدنا شعيب عليه السلام- وهو المعروف بأنه خطيب الأنبياء – يحكي القرآن الكريم قوله لقومه: (وَمَا أُريدُ أنْ أُخَالِفَكُمْ إلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إلا الإصْلاًحَ)( ). ‌‌‌‌‌
ب- وهذا رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم سيد الدعاة يدعو الناس إلى التخلي عن أمور الجاهلية، وذلك في خطبته في حجة الوداع، ولا يكتفي في ذلك بالقول، بل يعطى لهم القدوة من نفسه أولاً، ففي ضمن ما قاله صلى الله عليه وسلم في تلك الخطبة. "ألا كل شئ من أمر الجاهلية تحت قدميَّ موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث . . . .، وربا الجاهلية موضوع، وأول رباً أضع ربانا، رب عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله"( )
ج- ومما يروى عن الإمام الحسن البصري، وهو شيخ الواعظين، جاءه عبيد البصرة يشكون إليه سوء معاملة سادتهم لهم، وطلبوا منه أن يحث الناس على عتق الرقاب، وتأخر الإمام في تلبية هذا الطلب عدة جمع، ثم خطب فيه بعد ذلك، فما من أحد جمعه في المسجد إلا خرج وأعتق عبده . . وحين عتب عليه الأرقاء تأخره في تلبية طلبهم كل هذه المدة، أجاب قائلاً. "إنما أخرني أنني كنت لا أملك عبداً، ولم يكن معي ما أشتري به، فلما رزقني الله مالاً اشتريت عبداً وأعتقته، فلما  
<37>
طبقت على نفسي ما أمرت به غيري وجد الكلام استجابة في قلوبهم( )".
د- ومما قيل شعراً في هذا المعنى:
يا أيها الرجل المعلم غيره              هلا لنفسك كان ذا التعليم؟
تصف الدواء لذي السقام وذى الضنا      كيما يصح به وآنت سقيم
لا تنه عن خلق وتأتى مثله         عار عليك إذا فعلت عظيم
أبدأ بنفسك فانهها عن غيها         فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك تسمَعٌ إن وعظت ويقْتَدَي     بالقول منك ويقْبَلٌ التعليم
والأمثلة على هذا كثيرة والأقوال في هذا متعددة، ولكن فيما ذكرنا كفاية
5- وتتميز القدوة الحسنة بميزة أخرى وهى سهولة فهم الناس لها على اختلاف ثقافاتهم، وسرعة تأثرهم بها عن أي كلام يقال.
ومن أبلغ الأدلة على ذلك ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس يوم الحديبية إلى الحلق ونحر الهدى والتحلل فلم يلتفت منهم أحد إلى هذا الأمر رغم تكرير النبي صلى الله عليه وسلم له ثلاث مرات، فلما قصًّ ما حدث من الناس للسيدة أم سلمة أم المؤمنين رضى اللّه عنها أشارت عليه بأن يخرج ولا يكلم أحداً حتى ينحر بدنه ويحلق رأسه ليقتدي الناس به عملياً، وكان كما أشارت رضى اللهّ عنها( )
<38>
6- لأجل ذلك كانت دعوة القرآن إلى ضرورة الجمع بين إصلاح النفس ودعوة الغير, فقال: ( فلذلك فادع واستقم كما أمرت )( ).  
وقد سبحانه: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً ممن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقال إِننِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) ( ).
في الوقت نفسه ذم القرآن الكريم من يفضلون بين القول والعمل، والتوجيه والسلوك، بحيث يبدو كلامهم متعارضاً مع أفعالهم، فقد تعالى. ( يَا أيهَا الذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولًونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَّّ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ )( ).
وقال: ( أتَأْمُرُونَ الناسَ بالبرِّ وَتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُم وَأنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أفَلاَ تَعقِلُونَ )( ).
7- ونخلص من هذا كله إلى أن الخطيب ليس آلة صماء تسْمِعٌ الناس كلمات بمجرد الضغط على زر التشغيل بها، ولكنه نموذج حي متحرك، يسمع الناس أقواله، ويرقبون أفعاله وأحواله، فإذا كان حسن السيرة، وسليم السريرة خرجت كلماته من القلب ووصلت إلى القلب، وإلا كانت كلماته – مهما كان فصيح اللسان، بليغ العبارات – كالحرث في الماء، أو كالنفخ في الرماد، سرعان ما يزول أثرها وينعدم نفعها.
<39>
ولا يقف الأمر عند حدِّ ضياع الفائدة من الكلام وفقط، بل يعاقب الإنسان بين يدي اللّه بأقسى ألوان العقوبة وأشدها، ففي الحديث.
" يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار( )، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: أي فلان، ما شأنك؟ ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال. كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنها كم عن المنكر وآتيه" ( ).
ثانيا: الثقة بالنفس، والجرأة في مواجهة المشكلات
1- كلما قويت شخصية الخطيب أمكن أن يملك زمام من يتحدث إليهم، وأن تتحقق على يديه الفائدة لمستمعيه، طالما استشعر الجمهور أنه جدير باعتلاء المنبر، وأنه كفء لهذه المهمة.
2- ولن يرقى الخطيب إلى هنا الدرجة إلا إذا تمتع بقدر كبير من الثقة بالنفس، وتحلَّى بالطمأنينة ورباطة الجأش.
وتبدوا أهمية هذه الصفة للخطيب من خلال ملاحظة ما يلي:
أ- أن الثقة بالنفس تبعث الطمائنينه في قلب الخطيب فيتمكن من العطاء الكثير للمقبلين عليه.
ب- أن الخطيب قد يتعرض لبعض المشكلات من الجمهور، كأن يوجد

<40>
بين صفوفهم من يتسقط هفواته، أو تستبع زلاته، وقد يقابله بالسخرية والاستهزاء بعض هؤلاء، فإذا كان الخطيب واثقاً من نفسه تمكن من السيطرة على مثل هذه المواقف دون أن يهتز أو يضعف.
3- ومن المناسب في هذا المقام أن نذكر بعض المواقف التي تبين أهمية الثقة بالنفس في نجاح الخطيب وسيطرته على ما قد يعترضه من مشكلات.
أ/يروىَ أن أحد الخلفاء خطب يوماً فأرتج عليه، فأسعفته ثقته بنفسه وسرعة بديهته فقال:
"سيجعل الله بعد عسر يسراً، وبعد شدة فرجاً، وأنتم إلى إمام فعَّد أحوج منكم إلي إمام قوَّال".
ثم أنشد يقول:
فإلا أكن فيكم خطيبا ًفإنني          بسيفي إذا جد الوغى لخطيب
فكانت عبارته أبلغ من خطبته، قال خالد بن صفوان: "والله ما"علا ذلك المنبر أخطب منه في كلماته هذه"( ).
ب- وقف أحد الخطباء بين جمهوره ليقنعهم بشيء ما، فوقف أحد معارضيه، وشرح فساد رأيه من وجهة نظره، فصفق الحاضرون جميعاً لهذا المعارض، وأرسلوا ضحكاتهم وسخرياتهم من الخطيب, وما إن انتهى الناس من التصفيق والضحك بدأ الخطيب في هدوء تام يقول للحاضرين: أيها السادة . . إلى هنا صفقتم وضحكتم لأن هذا الرجل خدعكم بكلام معسول, ولكن انظروا ها هنا ما يستحق أن

<41>
تتأملوه، تم بدأ يشرح من جديد في هدوء وثبات كأن لم يعترضه أحد، أو يسخر منه أحد"( ).
ترَى، لو انفعل هذا الخطيب أو غضب أو بدت عليه سمات الضعف فآثر الانسحاب، ماذا سيكون مصيره؟ وكيِف يرى الناس حديثه إليهم، وخطابته فيما بينهم؟
4- وهكذا تبدو أهمية ثقة الخطيب بنفسه، وعدم انزعاجه أو خوفه من أى معارض، وهو ما أكد أهل هذا الفن على ضرورته وأهميته لنجاح الخطيب، ومن نصائح الأقدمين في هذا المقام قولهم: "إنك لا تتعلم الخطابةَ حتى تتعلم القحة" . . والمراد بالقحة عدم المبالاة بأي شيء يكون معارضاً له، ومرجع ذلك إلى الجرأة والثقة بالنفس( )‌.
5- صحيح أن موقف الخطيب بين الجمهور – وبخاصة في أول عهده بالخطابة – شديد وصعب، وقد تعرضنا جميعاً لذلك في بداية ممارستنا لها، فالأيادي ترتعش، واللسان يتلعثم، والأرجل تضطرب، والأعين تزيغ، والكلمات تهرب من الذاكرة، ولكن الخطابة في هذا الشأن كأي أمر يعالجه الإنسان لأول مرة، ثم – بكثرة الممارسة والمران – يزول الخوف، وتأتى الثقة بالنفس.
6- ويعين الخطيب على الوصول إلى هذه الثقة مباشرته للخطابة بحب وإقبال، تقديراً لقيمتها، واعترافاً بأهميتها، ويشفع الخطيب هذا الحب بإعداد نفسه جيداً لخطبته، بحفظ أدلتها وتنسيق معلوماتها،
<42>
والتدرب على إلقائها، فإذا فعل ذلك وقف بين جمهوره واثقاً من نفسه، غير وجل أو هيَّاب من أحد، فإذا انتقده أحد لم يضعف أو يضطرب, بل يقابل ذلك بمزيد الإصرار على النجاح، وصدق من قال: "إذا عصفت الريح بخيمتك، فقل شاء المقدر أن أبني مكانها قصراً".
7- وبهذه العزيمة التي لا تلين، وبالإعداد الجيد يوماً بعد يوم، تصبح – أيها الخطيب – رجلاً من رجالات الإسلام، الذين يدافعون عنه، ويجاهدون في سبيله، وهو الجهاد الذي أعز الله أهله، ورفع قدره، حين وصفه بالجهاد الكبير، فقال سبحانه: (فَلاَ تُطِع الْكَافِرينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كبِيرًا)( ).
ثالثا: الاهتمام بأصول الناس، والمشاركة الوجدانية لهم:
1- يخطئ من يتصور أن مهمة الخطيب لا تعدو أن تكون عظة يلقيها في محفل، أو خطبة يتلوها في مناسبة، ثم ينتهي كل شيء .
والواقع أن اقتصار الخطيب على هذا الجانب , دون أن يتفاعل مع الجمهور الذي يستمع إليه ويبدي اهتمامه بالمشاركة لهم في أفراحهم وأحزانهم, دون أن يبدوا كفرد منهم يشعر بآلامهم وآمالهم, كل ذلك من شأنه أن يضعف من تأثيره ويقل من نجاحه في مهمته.
2- إن المشاركة تضفي إحساسا عملياً في نفوس الناس، له قوته في تحقيق الوصال والاتصال, وتحقق التأثر والتأثير, ومن خلال ذلك يفتح

<43>
الناس قلوبهم للداعية يصَدّرونه في مجالسهم، ويَصْدٌرون عن رأيه, ويمكن استثمار ذلك كله لصالح الدعوة والمدعوين.
يقول الأستاذ فتحي يكن. "إن الداعية بحق هو الذي يعيش لسواه لا لنفسه، ويكون ديدنه الدوران حول مجتمعه وحول المسلمين وليس حول ذاته، وهو الذي يعمل على توفير الراحة للآخرين ولو على حساب راحته . . . فإذا قامت هذه الوشائج بين الداعية وبين الناس تحقق الوصال والاتصال، وتحقق التأثير والأثر، ونجحت المهمة، وآتت الدعوة أكلها بإذن ربها، وإن كان غير ذلك لم تكن دعوة ولا داعية"( )
3- ولنا في رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في اهتمامه بهذا الجانب في دعوته إلى الله تعالى.
فها هو صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى في حقه بالنسبة لأمته: (النبيُّ أوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ)( ).
ويقول أيضاً: (لَقَد ْجَاءَكُمْ رَسُول من أنَفُسِكُم عَزيزَ عَلَيْهِ مَا عَنِتِّمْ حَريص عَلَيْكُمْ بالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوف رحيم )( ).
ويقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم"( ).
<44>
وتحفظ لنا السنة كيف ترجم لنا النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام إلى واقع، فكان كما وصفته أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها: " إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحقَ"( ). وهذا الكلام قيل في حقه وقت أن بشِّرَ بالرسالة، فلما نزلت عليه كان أحرص عليه، وأكثر تمسكاً به.
4- وعلى هذا النهج سار سلف الأمة الصالح، فكانوا يولون عنايتهم بالمسلمين عامة، والمستفيدين من دعوتهم وعلمهم خاصة.
يقول سيدنا عبد اللّه بن عباس رضى اللّه عنهما: "أكرم الناس على جليسى، الني يتخطى رقاب الناس إلي، لو استطعت ألا يقع الذباب عليه لفعلت" . . وفى رواية. "إن الذباب ليقع عليه فيؤذيني "( ).
5- فإذا راعى الخطيب هذه المعاني، وشعر الناس بحبه الخير لهم كما بحبه لنفسه، ووجدوا أنه يسعى دائماً لما فيه الخير لهم حملهم ذلك على مزيد الحب له، وعظيم التقدير لشخصه.
قيل لأحد الناس. "بم سدت قومك؟ قال. ما سدتهم حتى صرت عبداً لهم" ( ).
فليقْفٌ الخطيبٌ أثر هؤلاء، ويسرْ على نهجهم، ليحقق النجاح لدعوته ورسالته، التي تهدف إلى إسعاد الناس فى دنياهم وآخرتهم.
<45>
المبحث الرابع
المقومات البيانية
* ويشتمل على الآتي:
أولا: ما يتعلق بكلامه ونطقه.
ثانيا: ما يتعلق بصوته.

<46>

<47>
أولا: ما يتعلق بكلامه ونطقه
1- البيان هو رسالة الخطيب التي لأجلها يعتلى المنبر, وهو خلاصة خبرته وثمرة اطلاعه وقراءته, وهو دليل عقله والمترجم عن فكرته, وصدق من قال:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما . . جعل اللسان على الفؤاد دليلا.
وسئل الفيلسوف اليوناني أرسطو فقيل له: في كم تعرف الرجل ؟ قال: إن تكلم ففي ساعة, وإن سكت ففي يوم .
2- وإذا كان البيان ينم عن شخصية الخطيب – على النحو الذي أشرنا إليه – فإن من واجب من يتصدر لمهمة الخطابة أن يعتني بهذا الجانب, حتى لا يشوه – بسوء بيانه – ما يقدمه من معلومات, وما يطرحه من أفكار.
يقول أبو العباس أحمد القلقشندي في كتابه (صبح الأعشى)( ).
"الألفاظ من المعاني بمنزلة الثياب من الأبدان, فالوجه الصبيح يزداد حسنا بالحلل الفاخر والملابس البهية, والقبيح يزول عنه بعض القبح , كما أن الحسن ينقص حسنه برثاثة ثيابه, وعدم بهجة ملبوسه, والقبيح يزداد قبحا إلى قبحه, فالألفاظ ظواهر المعاني ,تحسن بحسنها وتقبح بقبحها " أ. هـ
ويقول فخر الدين الرازي:
"الكلام له جسم وهو اللفظ, وله روح وهو المعنى, وكما أن الإنسان

<48>
الذي نور روحه بالمعرفة ينبغي أن ينور جسمه بالنظافة, كذلك الكلام ورب كلمة حكمية لا تؤثر في النفوس لركاكة لفظها"( ).
3- ولكي يكون بيان الخطيب في درجة عالية من الرقي ينبغي أن  يراعى الاعتبارات التالية:
أولا: ما يتعلق بكلامه ونطقه
1- أن يتحدث باللغة العربية الفصحى، ويتجنب الحديث باللغة العامية تماما, لأن ذلك يحط من قدرة وقدر خطبته.
ولا يعنى الحديث باللغة الفصحى – كما يتخيل البعض – أن يتكلف الخطيب الفصاحة، وأن يتنطع بالكلام وبتشدق بالحديث، بحيث يصعب على الناس فهمه، ولكن الخطيب الجيد هو من يبسِّط المعلومات للناس، ويعرضها في صورة مفهومة تنأى عن التعقيد، كما ترقى عن الابتذال والتدني في ألفاظها وعباراتها.
ولنا في رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فقد وصفت أم المؤمنين عائشة رضى الله، عنها كلام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقالت: "كان كلام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كلاماً فصلا يفهمه كل من سمعه"( ). وورد عنه صلى اللّه عليه وسلم ذمّ من يخالفون هذا الهدى النبوي, وذلك فيما رواه الترمذي:- " عن أبغضكم إلي, وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون"
والثرثار هو الذي يكثر الكلام تكلفا, والمتشدق هو الذي يتطاول على الناس بكلامه بملء فيه تفاحصا, والمتفيهق المتكبر على غيره بواسطة الكلام إظهارا لفضله على من سواه.
<49>
2- أن يضم إلى لغته الفصيحة عبارات صحيحة منضبطة وفق قواعد اللغة العربية نحوها وصرفها, وأن يتجنب اللحن, فإنه يشوه جمال الكلام ويذهب بروائه, وقد يحرف المعنى ويشوه المراد من الكلام.
ومن أقوال العلماء في ذلك:
"اللحن كالتفتيق في الثواب, والجدرى في الوجه".
ولهذا فإن اللحن من الخطيب يؤذي المستمعين ويعوقهم عن الفهم, ويصرفهم عن موضوع الخطبة, ويجعلهم يتدبرون فيما كان ينبغي أن يكون عليه الكلام من الصواب, وبذلك يصدم الخطيب مشاعر جمهوره. ويضيع الفائدة من خطبته, وقد يتطرق اللحن إلى آية يقرأها, أو حديث يرويه فيقع بذلك في محظورات شرعية إضافة إلى السلبيات الأخرى.
يقول الأصمعي: " إن أخوف ما أخاف على طالب العلم إذا يعرف النحو أن يدخل فيما قال النبي صلى الله عليه وسلم .. من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" ( ).
وقد أشرنا فيما سبق إلى أن الخطيب بإمكانه أن يجيد لغته بواسطة دراسة قواعدها, مع التركيز على التطبيق العملي, بحيث يعرب كل كلمة يقولها, ويضبطها وفق التي تعلمها, ومع مرور الوقت تصبح العربية عنده ملكة وطبيعة.  
<50>
3- أن يتجنب الخطيب عيوب النطق كالفأفأة والتأتأة واللثغ، وأن يجتهد في إخراج الحروف من مخارجها الصحيحة من غير تكلف أو تشادق، بل في يسر وسهولة.
وإذا كانت لدى الخطيب بعض المشكلات في حروف بعينها أمكنه أن يدرب نفسه على النطق الصحيح حتى يستقيم, لسانه، ويمكنه كذلك أن يستعمل من مرادفات اللغة ما يبعده عن النطق بأية حروف عنده فيها مشكلة.
ومن المشهور في هذا المقام أن واصل بن عطاء شيخ المعتزلة كانت لديه لثغة في الراء, فكان ينطقها لاما, وقد عالج هذا العيب باجتنابه في كلماته وخطبه أي كلمة تحمل هذا الحرف, وساعدته ثروته اللغوية الواسعة على أن يختار من مرادفاتها ما يحمل المعنى المراد دون اللجوء إلى ألفاظ من ضمن تركيبها الراء.
4- أن يراعى الخطيب أثناء حديثه التأني بالكلام, بحيث يعطي لنفسه وللجمهور فرصة للتدبر والمتابعة. وقد ورد في الحديث عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم" .
ولا يقصد بالتأني في الكلام أن يبطء الخطيب في إلقائه إلى درجة تفقد الخطبة حرارتها وحيويتها، كما لا تستلزم الخطبة القوية السرعة إلى درجة تتطاير معها الحروف، وتتزاحم فيها الكلمات، بحيث يصعب على المستمع متابعتها".
وقد تستلزم بعض الواقف من الخطيب أن يسرع في كلماته لإيصال معنى معين كالحث على الجهاد في سبيل الله, أو الانفعال والغضب في موقف.  
<51>
يستأهله، ومع ذلك سرعان ما يعود الخطيب إلى الوضع الطبيعي من حيث التمهل والتأني بالكلام دون إفراط أو تفريط.
ثانيا: ما يتعلق بصوته:
1- يتعامل الخطيب مع الناس بصوته، ويعرض عليهم من خلاله نتاج فكره وعقله، وما سميت الخطابة بهذا الاسم إلا لأنها نوع من الخطاب يعتمد على كلمات الخطيب ومعلوماته، ويقوم الصوت بإبلاغها إلى جمهوره ومستمعيه.
2- ولما كان الصوت هو الأداة المعبرة عمَّا بذله الخطيب من جهد في جمع معلوماته وتنسيق موضوعاته، وجب على الخطيب أن يوليه من الاهتمام والعناية قدراً لا يقل عن اهتمامه بالإعداد الجيد لموضوعه، وحسن التعبير عنه، على النحو الني أشرنا إليه في النقاط السابقة.
"إن الأشياء البسيطة كثيراً ما تعْرَضٌ فى أغلفة أو ظروف ثم اختيارها من مادة جيدة وثم تصفيف تلك الأشياء فيها بعناية وذوق، فكان لتلك الأغلفة والظروف من الجاذبية ما يجعل قيمة الشيء المعروض فيها أرفع مما لو لم يِّعْرَض فيها، أو لم يكن وضعه فيها بتلك العناية، وبذلك الذوقَ.
وتنطبق هذه الحقيقة على الكلام نفسه، فكم من الكلام ما كان ذا معنى مألوف أو حكم معروف، ولكن المتكلم به يكسوه من صفاء صوته ورونق نبراته ما يأخذ بالسامع، وكأنه يسمع شيئاً جديداً لا عهد له به من قبل،)( ) ومن هنا ندرك السرَّ في أنك تسمع لخطبة تتأثر بها، وتنفعل معها، فإذا كتِبَتْ هذه الخطبة وقمت بمطالعتها لم تجد لها نفس التأثر, والسبب
<52>
في ذلك هو أن جودتها جاءت من حسن إلقائها لا من حسن تنسيقها وتربيتها.
3- ولذلك لا نعجب أن تتوفر على الاهتمام بعملية الصوت هذا مؤسسات تعليمية، تعنى بمقاماته ومقاطعه ودرجاته . . . . . . الخ.  وقد تنبه الناس إلى ذلك منذ عهد قديم.
يقوله الشيخ محمد أبو زهرة: "كان قدماء اليونان يعنون عناية خاصة بتربية الصوت، ويجعلونها فناً قائماً بذاته، له أساتذة قد خصصوا لدراسته, يربون الشبيبه على السيطرة على أصواتهم والغلب عليها، ليجعلوا رناتها ملائمة للمقامات البيانية، وليجعلوا من المران دواء للعيون الصوتية." ( )
4- ولكي يكون الصوت عاملاً مساعداً على نجاح الخطبة وإحداث التأثير اللازم فيه ينبغي أن تراعى فيه عدة اعتبارات، نلخصها فيما يلي:
أ- أن يتناسب الصوت مع المكان من حيث السعة والعدد ومن حيث توفر مكبرات الصوت من عدمها، فلا يرتفع حتى يصبح صياحاً، ولا ينخفض حتى يكون همساً.
ب – أن تكون الخطبة في بدايتها بصوت معتدل مائل إلى الانخفاض، تم ترتفع شيئاً فشيئاً، ويعلوا الصوت وينخفض وفق موضوع الكلام, وأن يكون هناك تناسب بين المجهود الصوتي وما تستغرقه الخطبة,حتى لا يصاب الخطيب بالإعياء قبل نهاية الخطبة فيضعف أثرها, وتفقد رواءها.
ج- أن يستفيد الخطيب من تنوّع مراتب الصوت – وهي هبة وهبها  
<53>
لله له- بحيث تتلاءم تلك المراتب مع  موضوع الكلام، وبحيث تختلف نغمة فيه عن أخرى فالترغيب غير الترهيب، والحديث عن الجنة يختلف عن الحديث عن النار، وسوق الكلام في صورة خبر يختلف عنه فيما لو كان في صورة سؤال، وتعجب الخطيب ودهشته من أمرٍ ما ليست كحسرته عليه أو إشفاقه على أصحابه…. الخ.
فإذا لم يراع الخطيب ذلك، وجاءت كلماته بنغم رتيب لا يتغير ولا يتبدل كان مبعثاً للضجر والسأم.
"إن النغم الرتيب في الإلقاء شبيه بصوت الماء النازل من حنفية على مستوى واحد من النغم الثابت، إن مثل هذا الإلقاء قلًّما يشد انتباه السامعين إليه، بل إنه مجلبة للتثاؤب والنوم، أو الضجر والسآمة، سواء أكان النغم لطيفا أم عنيفا"( ) النغم لطيفاً أم عنيفا ".
د- ومن المناسب في هذا المقام أن يبرز الخطيب ما يتعلق بموضوعه بالضغط عليه بصوته ليلفت نظر السامعين إليه، فإذا كان يتحدث مثلاً عن الأخوَّة بين المؤمنين، وتلا قوله تعالى: (إنما المؤمنون أخوة)( )فليبرز كلمة (إخوة) بالضغط عليها بصوته، وإذا كان يشير إلى  أن الأخوة ثمرة من ثمرات الإيمان أبرز كلمة (المؤمنون) بالضغط عليها بصوته لذات الغرض, وهكذا.
<54>
هـ – أن يهبط الخطيب بصوته كلما أشرفت فقرة من فقرات الخطاب على الانتهاء، ولا ينهى فقرةً ما بصوت مرتفع إلا إذا كان. لها ارتباط بما بعدها. وإذا كان يتحدث عن مأساة من المآسي راعى أن يكون حديثه عنها بصوت منخفض خجلاً واستحياء منها ومن فاعليها، فإذا عقب علبها ببيان غضب اللّه وعقابه رفع صوته واحتدَّ في خطابه( ).
و- يجب ألا يهتم الخطيب بمقاطع الكلام التي ينتهي كلامه عندها، بحيث يكون وقوفه عند كلام تام المعنى, فإن ذلك مما يساعد على وضوح المعنى, وتركيزه في نفس السامع.
ومما يدل على عناية السابقين بهذا الأمر وما يترتب عليه من أثر إيجابي في نفوس المستمعين ما روى عن الأحنف بن قَيس قال:
" ما رأيت رجلاً تكلم فأحسن الوقوف عند مقاطع الكلام ولا عرف حدوده إلا عمرو بن العاص، كان إذا تكلم تفقد مقاطع الكلام، وأعطى حق المقام) وغاص في استخراج المعنى بألطف مخرج، حتى كان يقف عند المقطع وقوفاً يحول بينه وبين تبيعته عن الألفاظ"( ).
5- ونخلص من هذا إلى أهمية العناية بالصوت حين إلقاء الخطبة، ليجمع الخطيب بين إقناع القلوب والعقول بثراء معلوماته، وإطراب الآذان بجمال حديثه وعذب صوته.
وبإمكان الخطيب أن يعالج عيوب صوته بالطب إن كان السبب في ضعفه
<55>
طبياً، أو بالتمرين والممارسة إن كان ضعفه ناشئاً عن سبب غير طبي "وقد ثبتت جدوى المران كدواء للعيوب الصوتية، والدليل على ذلك ما ذكِر من أن ديموستين كان ضعيف الصوت فلما أراد أن يكون خطيباً راض نفسه، فأخذ يقوى رئتيه بالصياح وهو يصعد الجبال الوعرة أو على ساحل البحر، محاولاً إلى يكون صوتَه أعلى من صخب الأمواج، وقد كان له ما أراد بتلك المحاولات"( )  .
6- وإلى جانب المران يأتي دور الخطيب الذي ينبغي أن يهتم بموضوعه، ولتفاعل مع جوانبه وأدلته، فإذا بصوته يتلوَّن وفق المعاني وإلا – إذا فقد الخطيب هذا التفاعل- فقد صار قارئاً لا خطيباً، وهو ما جعل العلماء لا يستحسنون خطيب الورقة، ولا من بجدِّثٌ الناس من محفوظاته ويرون أن الخطيب الجيد هو من يعد عناصر خطبته والأفكار التي يريد نقلها إلى الناس، ثم يعبّر عنها بطريقته، وهو ما يستلزم من الخطيب جهداً في الإعداد وجهدا في التدريب للوصول إلى المستوى اللائق، والترقي فيه يوما بعد آخر( ).
<56>
<57>
المبحث الخامس
المقومات الشكلية للخطيب
* ويشتمل على الآتي:
أولا: ما يتعلق بالملبس والهيئة.
ثانيا: ما يتعلق بالإشارة والحركات.
ثالثا: ما يتعلق بالوقفة.
<58>
<59>
أولا: ما يتعلق بالملبس والهيئة
1- يستهدف الخطيب من حديثه إلى جمهور المخاطبين إقناع العقول وتزكية النفوس، وتتعاون على تحقيق هذه الغاية مجموعة من العوامل ذات الصلة بعملية الخطابة، ومن بين تلك العوامل مظهر الخطيب وهيئته التي يراه الناس عليها، وذلك لأن أعين المخاطبين ترقب هيئته قبل أن تنصت آذانهم لكلامه، ويترتب على ذلك تأثيره فيهم إيجاباً أو سلباً.
2- ومن المناسب في هذا المقام أن نذكر بعض المواقف الدالة على صحة هذا الكلام.
أ- ذكر الجاحظ في كتابه (البيان والمَبين) ( )   أن إياس بن معاوية المزني (وهو رجل مشهور بالذكاء والفراسة) أتى حلقة لقريش في مسجد دمشق، فاستولى على المجلس، ورأوه أحمر دميماً . . رثَّ الهيئة ، فاستهانوا به، فلما عرفوه اعتذروا إليه وقالوا: الذنب مقسوم بيننا وبينك، أتيتنا في زيّ مسكين تكلمنا كلام الملوك. أ. هـ
ب- رأى سيدنا معاوية بن أبي  سيفان رجلاً يرتدى عباءة رثه وهو بخطب، فأنكر مكانه وهيئته، فاضطر الخطيب إلى أن يقوله له. إن العباءة لا تكلمك، وإنما يكلمك من فيها( ).
3- ويضيف العلماء بعداً آخر لعناية الخطيب بلباسه وهيئته, وهو تأثير
<60>
ذلك على الخطيب نفسه، حيث ينعكس اهتمام الخطيب بحسن هيئته في وقارة وعنايته بجودة مادته وامتلاكه لزمام نفسه.
ومما يروى في هذا أن عالماً نفسياً أرسل إلى مجموعة كبيره من الناس وسألهم عن تأثير الملابس فيهم، فشهد جميعهم دون استثناء بأنهم حين يكونون في أبهى زينة وأجمل ملبس، ويعرفون ذلك ويحسونه، فإنهم يملكون زمام أنفسهم ويلا يخطئون( )  .
4- ومن ثم وجب على الخطيب أن يعتني بلباسه وهيئته، وأن يبدو في مظهر يليق بدعوته التي تدعو إلى النظافة والجمال، وأن يكون قدوة في العمل بقوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذوا زِينَتَكُمْ عِهدَ كُل مَسْجدٍ)( ). "والداعية هو أولى من غيره في التحلي بالزينة عند كل خطبة أو درس أو محاضرة . . فيكون نظيف الثياب في غير خيلاء، طيب الرائحة في غير إسراف، مهيب المنظر في غير تكلف، ومهذب الرأس واللحية في غير تصنع، تظهر عليه أمارات الكمال والجلال( ).
5- وليكن قدوته وأسوته في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة الصالح, الذين كانوا يحرصون على التجميل والتهيئ للقاء الناس.
فقد جاء في تفسير القرطبي ( ) عند تفسير قوله تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)( ).
<61>
 عن عائشة رضى الله عنها قَالت. "كان نفر من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينتظرونه على الباب، فخرج يريدهم، وفى الدار ركوة فيها ماء، فجعل ينظر في الماء ويسوِّى لحيته وشعره.. قالت عائشة: فقلت يا رسول اللّه، وأنت تفعل هذا؟ قال نعم، إذا خرج الرجل إلى إخوانه فليهيئ من نفسه، فإن الله جميل بجب الجمال" أ. هـ.  ومما أثر عن الإمام مالك رضي الله عنه أنه كان إذا جاءه الناس لطلب الحديث اغتسل وتطيب، ولبس ثياباً جدداً، ووضع رداءه على رأسه، تم يجلس على منصَّة، ولا يزال يبخر بالعود حتى يفرغ، ويقول. أحب أن أعظم حديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم( )
6- وخير للداعية في هذا المقام أن يرتدي من الثياب ما تعارف الناس عليه انه ثياب أهل العلم والدعوة كالجبة والعمامة, أو الجلباب والعباءة مع غطاء للرأس, وها نحن نرى التزام أهل كل مهنة بما يميزهم في لباسهم كالحمامين والقضاة مثلاً، وكذلك نرى زعماء كل دين يحرصون على التميز بلباس خاص يميزهم عن بقية الناس. وهذا خير للخطيب وأكرم من أن يعتلى المنبر وقد تجرد من هدى النبي صلى الله عليه وسلم، فحلق لحيته وأطلق شاربه، وراح يحكي بمظهره تقاليد الغرب في زيهم وهيئتهم، فيقل بذلك تأثيره في جمهوره, وتصعب مهمته في إقناعه واستمالته.
<62>
ثانيا: ما يتعلق بالإشارات والحركات
1 – شأن الخطيب كشأن أي متحدث، يبدو عليه التأثر والانفعال، وينعكس ذلك على ملامح وجهه ونظرات عينيه وحركة يديه . . . الخ. وإذا لم يكن الخطيب على المستوى اللائق والمطلوب من التأثير والانفعال خرجت كلماته باردة وفقدت حيويتها وحماستها، وبذلك ينعدم تأثيره، وتقلَّ فائدته.
2- ومن هنا أكد العلماء على أهمية الإشارة والحركة في مجال الخطابة.
يقول الشيخ على محفوظ: "الإشارة الخطابية حركات تبدو من جسم الخطيب ووجهه ورأسه وجوارحه من شأنها تأييد الكلام الذي يتفوه به، وحسنها من تمام حسن البيان باللسان . . . . . ولها في الخطابة شأن عظيم لأنها تشارك النطق في نقل الفكر متخذة البصر لها سبيلاً، فهي اللغة التي يفهمها كل إنسان، وما تحدثه من التأثير لا تأتي بمثله لغات العالم، ولا يكاد صاحب حديث يستغني عنها".( )
3- وقد حفظت السنة النبوية كثيراً من الأحاديث الني استخدم فيها النبي صلى الله عليه وسلم الإشارة مع الموعظة، فكان لها أبلغ الأثر، ومن ذلك على سبيل المثل:
أ- قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وقال بأصبعيه السبابة والوسطى"( )
<63>
ب- وقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان بشد بعضه بعضاً، ثم شبك بين أصابعه".( )
ج- ومما يدل على الانفعال أثناء الحديث إذا ورد ما يستوجبه ما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر الساعة احمرَّت وجنتاه، وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه نذير جيش يقول. "صبحكم مسَاكم". ( )  
4- وقد وضع العلماء عدداً من الضوابط لاستعمال الإشارة، نوجزها فيما يلي:
أ- أن تتوافق مع المعنى، وتنسجم مع السياق، وإلا كانت ضارَّة غير نافعة، فلا يصح أن أتحدث عن أصحاب اليمين و يدي تتجه إلى ناحية الشمال.
ب- أن تتزامن مع الكلمة التي تستخدم الإشارة لأجلها أو تسبقها بقليل، فإن تأخرت عنها ضاعت فائدتها.
ج- أن تتناسب مع طبيعة الكلام الذي تستعمل فيه، ففى مجال الحماسة وغيرها من ميراث العواطف تزيد، وفى غير ذلك تقل.
د- أن لا تتكرر، فان في تكرارها ما يدعوا إلى السأم والملل, وما يوهن موقف الخطيب ويضعف تأثيره.
هـ – ومن أهم تلك الضوابط ألا تكثر الإشارة والحركة بصورة تلفت النظر, فإن ذلك يفقد الخطبة رواءها, ويذهب بسمت الخطيب ومهابته( ).  
<64>
ثالثا: ما يتعلق بالوقفة
1- على الخطيب أن يتوجه لاعتلاء المنبر في تؤدة ووقار، وأن يقَّدم رجله اليمنى، ويلقي السلام بصوت مسموع على جموع الحاضرين، وألا يبدأ كلامه فوراً، بل يستجمع همته، وتطمئن جوارحه ويسرى الهدوء في جو الموعظة، ويتهيأ الجميع للإنصات والاستماع.
2- ولقف الخطيب على مكان مرتب بحيث يشاهد المخاطبين ويشاهدونه ، فان ذلك أدعى لمتابعة المستمع له واهتمامه بما يلقى غليه, وعليه أن يوزع نظراته على جموع الحاضرين, فيلتفت يمنة مرة ويسرة أخرى, فيزيد إقبالهم عليه ويتحقق الوصال والاتصال.
3- وعلى الخطيب أن يكون في وقفته عالي الرأس, مستقيم الجسم, فلا انحناء ولا تقوس, وهذا دليل رباطة الجأش وثبات القلب.
4- فإذا انتهى الخطيب ص خطبته أو المتحدث من كلمته انصرف بهدوء ووقار على النحو الذي أقبل به، وأن يتجنب الرعونة والإسراع  الزائد في الإقبال أو الانصراف.
وبهذا يحفظ الخطيب مكانته, ويصون حرمته وتعم الفائدة به زمانا ومكانا. والله أعلم.
<65>
المبحث السادس
حاجة الخطيب إلى
الممارسة والتدريب
<66>
<67>
1- من خلال النقاط والمباحث التي سبق ذكرها يتضح لنا ما ينبغي أن يبذله الخطيب من جهد، وما يحصله من مقومات للوصول إلى المستوى اللائق من مجال الخطابة.
2- لكن هذه المقومات ليست كافية – وان توفرت – لإعداد الخطيب، فقد نجد عالماً بارزاً في العلم لكنه لا يقوى على مخاطبة الجمهور، ويعتريه الخجل ويصاب بالحصر والعي عند لقاء الناس، ويترتب على ذلك أن ينعقد لسانه فلا يستطيع الكلام، أو يخرج من المأزق بكلام مضطرب يثير عليه الجمهور، وبعرِّضه للحرج . . ولنتأمل معاً هاتين القصتين.
أثرِ عن مصعب بن حيان أنه دعَىِ مرَّة ليخطب في حفل زواج، فأدركه الحصر، وأراد التخلص من هذا الموقف، فقال:
لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله. فقَالت أم العروس: عجل الله موتك، ألهذا دعوناكُ؟( ).
وقام آخر في حفل زواج ليخطب، فاستفتح خطبته بتلاوة الآية الكريمة. (الطلاَقُ مَرتَانِ . . . . . . .)( ) فثار عليه أصحاب الحفل، وتشاءموا من كلماته وخطبته.
3- وحتى يتخلص الخطيب من هذه المواقف الحرجة، ويرقى بمستواه يوما  
<68>
بعد يوم يلزمه أن يمرّن نفسه ويروضها على ممارسة الخطابة حنى بلين له القول، وتطاوعه الكلمات، والخطابة في هذا ليست بدعاً، ولكنها كشأن أي فن من الفنون، يحتاج إلى البراعة فيه إلى صبر ومعاناة وكثرة ارتياض، وهو ما أكد على أهميته للخطيب أهل العلم بالخطابة.
يقول خالد بن صفوان: "إنما اللسان عضو إذا مرنته مران، فهو !اليد تخشنها بالممارسة، وكالبدن تقويه برفع الحجر، والرِّجْل إذا عوِّدت المشي مشت" ( )
وقالت أبو داود: "رأس الخطابة ا لطبع، وعمودها ا لدربة، وحليها الإعراب، وبهاؤها تخير اللفظ".( )
4- وفيما بلى نتعرف على بعض الأمثلة التي تدل على أهمية التدريب للخطيب، ودوره في رفع مستواه:
أ- من الأمثلة الشهيرة في هذا المقام ما يذكرونه عن (ديموستنِ) أعظم الخطباء في التاريخ القديم، فقد ذكروا أنه كان في شبابه ضعيف الصوت، قصير النفس وكانت بلسانه لثغة تغرى الآخرين بالسخرية منه، وقد حاول أن بخطب وهو على تلك الحال فقوبل بالسخرية والاستهزاء من جموع الحاضرين، وكاد يتراجع عن الاستمرار في هذا ا لطريق لولا أن بعض أصحابه عطف عليه وشجعه، وأعاد إليه الثقة بنفسه، وأقنعه بأن لدبه مواهب الخطيب وإمكاناته، ولا ينقصه سوى التدريب على حسن الإلقاء وجودة النطق، وهو شيء يمكن أن يكتسب بالمران.
<69>
وبدأت محاولاته الجادة للوصول إلى غايته، ومما يذكر فى هذا أنه كان ينقطع شهوراً طويلة – ونصف رأسه محلوق لئلا يحاول الخروج، وقد أعد لنفسه حجرة كان ينفرد فيها ليتمرن على الخطابة، وكان أمام المرآة ليتخير الإشارات المناسبة وقت الإلقاء، وكان يلقى خطباً وفى فمه حصى ليحل عقدة لسانه، وربما وقف على شاطئ البحر ليمرن نفسه على التغلب بصوته على جلبة ا لناس، وكان أحياناً يصعد الجبل جرياً وهو يقول أبياتاً من الشعر بصوت مرتفع، ليقوِّى رئتيه ويعالج  قصر النَّفَس، وقد كان يحافظ كل الحرافظة علي إعداد جميع خطبه قبل إلقائها.
وبعد سنوات من التدريب الشاق تكَلل جهاد بالنجاح، وصار أرقى خطيب، وأعظم مفوه في التاريخ  القديم ( )  .
ب- وروى أن عمر بن سعيد بن العاص الأموي كان لا يتكلم إلا اعترته حبسة في منطقه، فلم يزل يعالجها ويعالج إخراج الكلام حتى مال شدقه وأطلق عليه لقب (الأشدق) أي: الفصيح البليغ، وفيه يقول الشاعر:
تشدق حتى مال بالقول شدقه      وكل خطيب لا أبالك أشدق( )
ج- وكان واصل بن عطاء مؤسس مذهب المعتزلة يعانى لثغة في لسانه – لاسيما في حرف الراء- وكان ذلك يعجزه عن محاجة خصومه، ومقارعة مخالفيه، فكابد نفسه حتى استقام لسانه، وعالج لثغة الراء بإسقاطها من كلامه كليَّة، واستعاض عن ذلك بالمرادفات.
<70>
يقول الجاحظ معلقاً على هذا الخبر ومبدياً الإعجاب بصنيع واصل ابن عطاء: "ولولا استفاضة هذا الخبر وظهور هذه الحال حتى صار لغرابته مثلاً، ولطرافته معْلَمَاً، لما استجزنا الإقرار به والتأكيد له، ولست أعنى خطبه المحفوظة ورسائله الخالدة، لأن ذلك يحتمل الصنعة، وإنما عنيت محاجة الخصوم ومناقلة الأكفاء ومفاوضة الإخوان"( )   
د- وربما كان من المناسب في هذا المقام أن أذكر لإخواني وأبنائي الكرام تجربتي الشخصية مع الخطابة والتى بدأت ولله الحمد فى أول المرحلة الثانوية فى الأزهر أوائل السبعينيات لقد بدأت الخطابة أول الأمر في أحد المساجد الصغيرة حتى لا ترهبني رؤية العدد الكثير من المصلين, وكنت أعد خطبى إعداد جيدا قبل إلقائها طوال الأسبوع وأعكف قبل الصلاة بعدة ساعات على حفظ نصوصها ومعرفة ترتيبها وأصعد فوق سطح المنزل أتلوها بصوت مرتفع حتى تعلق بذهني, وترسخ أدلتها في عقليثم أقوم بإلقاءها على جموع المصلين كما هى دون زيادة عليها , وكأني مجرد آلة تسجيل فقط.
ثم تطور الأمر بعد ذلك على إمكانية التصرف بزيادة أو نقص بعد اكتساب الخبرة لعدة سنوات, لكن مع الاهتمام الجيد بالإعداد للخطبة.
ومع توالي ممارسة الخطبة في كل جمعة أصبح في الإمكان – بحمد الله تعالى – الحديث في أي موضوع وأمام أي عدد من الجمهور دون إعداد أو تحضير سابق, وربما كان الحديث أمام ميكروفون الإذاعة أو شاشة التلفاز, دون أن أجد في ذلك ما كنت أجده مع بداية ممارسة الخطابة, مع تصويب الكثير من الأخطاء التي كانت محل نقد من الجمهور أولا: بأول.    

<71>
5- ونخلص من هذا كله إلى أهمية الممارسة لعملية لخطابة دون انقطاع، والعمل على تجويد الأداء وتحسينه حتى يصل الإنسان إلى المستوى اللائق في هذا المجال، علماً بأن التمرين والرياضة لا تختص فقط بالمبتدئين فيها، بل هي أمور لازمة- كما يقول الشيخ أبو زهرة- لمن برع فيها، وعظم أمره، وعدَّ من أفصح الخطباء ( ).
والمجالات التي يمكن للخطيب أن يروض نفسه فيها منها ما يتعلق بالفكرة المراد تناولها، ومنها ما يتعلق بالأسلوب، ومنها ما يتعلق بالإلقاء.
ففيما يتعلق بالفكرة يجب أن يعوّد الخطيب نفسه ضبط أفكاره (ولا بأس بكتابة عناصرها الرئيسية في ورقة حتى لا تضيع معالمها) وأن يختار من تلك العناصر ما يرتبط بالناس، وأن يستكثر من الأدلة والبراهين المتعلقة بموضوعه، وأن بعوِّد نفسه الاتصال بالناس، ليخلط نفوسهم بنفسه، فيحس بإحساسهم ، وبكون قريباً منهم، ويتحدث إليهم إن وجد ما يدعوا إلى ذلك فيهم.
وفيما يتعلق بالأسلوب يجب على الخطيب أن ينتقى ألفاظه، ويجوّد عبارته، وأن يحفظ من أساليب البلغاء وحكمة الحكماء ونظم الشعراء ما يزيّن به كلامه.
وفيما يتعلق بالإلقاء يعوّد الخطيب نفسه على إخراج الحروف من مخارجها وأن يقرأ كل ما يستحسنه بصوت مرتفع، مصوّراً بصوته معاني ما يقرأ، بتغيير  النبرات، ورفع الصوت وخفضه، وفق القواعد التي سبقت الإشارة إليها، وعليه أن يخطب مرتجلاً ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وأن يكون جريئاً غير هيَّاب ولا وجل، – حتى ترسخ أقدامه, ويعلوا في هذا المجال نجمه, ومن سار على الدرب وصل( )
<72>

<73>
المبحث السابع
نماذج من خطب النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين
كمنطلق للتدريب والممارسة
* ويشتمل على الآتي:
أولا: من خطب الرسول صلى الله عليه وسلم
ثانيا: من خطب أبي بكر رضي الله عنه.
ثالثا: من خطب عمر رضي الله عنه.
رابعا: من خطب عثمان رضي الله عنه.
خامسا: من خطب علي رضي الله عنه.
                                  <74>
<75>
تقديم بين يدي الخطب
روعي في اختيار هنا الخطب أن تتناسب مع الطلاب المبتدئين في سلك الخطابة، بحيث يتم حفظ هذه الخطب، وبتدرب الطلاب على إلقائها حتى يعتادوا الجرأة، وتزول من نفوسهم الهيبة، ويتم في أثناء ذلك تقويم ما قد يكون في الإلقاء من عيوب.
<76>
أولا: من خطب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم (خطبة حجة الوداع)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهد اللّه فلا مضلَّ له، ومن يضللّ فلا هادىَ له، وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، و أشهد أن محمداً عبده ورسوله..
أوصيكم عباد الله، بتقوى اللّه، وأحثكم على طاعة اللّه، وأستفتح بالذي هو خير.
أمّا بعد. أيها الناس، اسمعوا منى أبيِّن لكم، فإني لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا أيها الناس. إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، إلى أن تلقوْا ربكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلغت، اللهم اشهد !
فمن كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها، وإن ربا الجاهلية موضوع( )وإن أوّل ربا أبدأ به ربا عمى العباس بن عبد المطلب، وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السّدانة والسقاية، والعمد قود ( )، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر، وفيه مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية.
أيها الناس، إنّ الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه رضى أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم.
 
<77>
أيها الناس، إنما النَّسيء ( )   زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يِّحلِّّونه عاماً ويحرّمونه عاما ليواطِئو عِدّةَ ما حرم الله، وإنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السماوات والأرض، وإن عدّة الشهور عند اللّه اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض، منها أربعة حِّرِّم، ثلاثة متواليات، وواحد فرد: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم، ورجب الذي بين جمادى وشعبان. ألا هل بلغت، اللهم اشهد!
أيها الناس، إنّ لنسائِكم عليكم حقا، وإنّ لكم عليهنّ حقاً لكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم غيركم، ولا يدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن( ) وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإنما النساء عندكم عَوَان لا يملكن لأنفسهن شيئا، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمَة اللّه؛ فاتقوا الله فى النساء واستوصوا بهن خيرا. ألا هل بلغت، اللهم فاشهد.
أيها الناس، إنما المؤمنون إخوة، ولا يجل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفسه. ألا هل بلغت، اللهم اشهد! فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم أعناق بعض.
أيها الناس، إنّ ربَّكم واحد، وإنّ أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند اللّه أتقاكم، ليس لعربيّ على عجمي فضل إلا بالتقوى ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم.. قال: فليبلغ الشاهد منكم الغائب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
<78>
ثانيا: من خطب أبي بكر رضي الله عنه:
خطب رضي الله عنه حين تولى الخلافة فكان مما قال:
أيها الناس، إني قد ولّيت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حقّ فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسدّدوني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم. ألا إنّ أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له وأضعفكم عندي القويّ حتى آخذ الحق منه أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم).
وخطب أيضا فحمد الله و أثنى عليه ثم قال:
أيها الناس، إني أوصيكم بتقوى الله العظيم في كل أمر وعلى كل حالا ولزوم الحق فيما أحببتم وكرهتم، فإنه ليس فيما دون الصدق من الحديث خبر، من يكْذِب يفْجر، ومن يفجر يهلك، وإياكم والفخر، وما فخر من خلق عن تراب وإلى التراب يعود، هو اليوم حي وغداً ميت! فاعملوا وعدّوا أنفسكم في الموتى، وما أشْكِلَ عليكم فردوا علمه إلى الله، وقدموا لأنفسكم خيراً تجدوه محضراً، فإنه قال عز وجل: ( يَوْمَ تَجدُ كُل نفسٍ مٌا عَمِلَتْ مِنْ خَيْر محْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَد لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَينه أمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذرُكُمُ الله نَفْسَهُ وَالله رَؤُوف بالْعِبَادِ).( )
فاتقوا اللّه عباد الله وراقبوه، واعتبروا بمن مضى قبلكم, واعلموا أنه لا بد من لقاء ربكم والجزاء بأعمالكم, صغيرها وكبيرها, إلا ما غفر الله, إنه
<79>
غفور رحيم, فأنفسكم أنفسكم والمستعان الله, ولا حول ولا قوة إلا بالله: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما)( ).
اللهم صل على محمد عبدك ورسولك، أفضل ما صليت على أحدٍ من خلقك، وزكنا بالصلاة عليه، وألحقنا به، واحشرنا في زمرته، وأوردنا حوضه اللهم أعنا على طاعتك، وانصرنا على عدوك.
 
<80>
ثالثا: من خطب عمر رضي الله عنه
خطب عمر رضي الله عنه فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
الحمد للّه الذي أعزنا بالإسلام، وأكرمنا بالإيمان، ورحمنا بنبيه صلى الله عليه وسلم , فهدانا به من الضلالة وجمعنا به من الشتات, وألف بين قلوبنا نصرنا على عدونا, ومكن لنا في البلاد, وجعلنا به إخوانا متحابين, فاحمدوا الله على هذه النعمة, واسألوه المزيد فيها والشكر عليها, فإن الله قد صدقكم الوعد بالنصر على من خالفكم, وإياكم والعمل بالمعاصي وكفر النعمة, فقلما كفر قوم بنعمة ولم ينزعوا على التوبة إلا سلبوا عزهم وسلط عليهم عدوهم.
أيها الناس، إن اللّه قد أعز دعوة هذه الأمة وجمع كلمتها وأظهر فلحها ونصرها وشرفها، فاحمدوه عباد الله على نعمه، واشكروه على آلائه، جعلنا اللّه وإياكم من الشاكرين.
وخطب فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
أيها الناس، تعلموا القرآن تعرَفَوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، واعلموا أنه لم يبلغ من حق مخلوق أن يطاع في معصية الخالق "ألا وإني أنزلت نفسي من مال اللّه بمنزلة والى اليتيم، إن استغنيت عففت, وإن افتقرت أكلت بالمعروف"  <81>
رابعا: من خطب عثمان رضي الله عنه:
وقد ألقيت هذه الخطبة حين بايع أهل الشورى عثمان رضي الله عنه ، فأتى منبر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فحمد اللّه وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " إنكم في دار قلعة"( ). وفي بقية أعمار، فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه، ألا وإن الدنيا طويت على الغرور، واعتبروا بمن مضى ثم جدوا ولا تغفلوا. فإنه لا يغفل عنكم، أين أبناء الدنيا وإخوانها الذين آثروها وعمروها، ومتعوا بها طويلا, ألم تلفظهم؟ أرموا بالدنيا حيث رمى الله بها، واطلبوا الآخرة، فإن الله قد ضرب لها مثلا والذي هو خير فقال عز وجل: (وَاضْربْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تزروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا * المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوبا وخير أملا) ( )
خامسا: من خطب على رضي الله عنه:
خطب رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أما بعد فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع، وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع، وإن المضمار اليوم وغدا السباق، ألا وإنكم في أيام عمل من وراءه أجل فمن قصر فى أيام عمله قبل حضور أجله  فقد خيب أمله, ألا فاعملوا لله في الرغبة كما تعملون له في الرهبة, ألا وإني لم أر كالجنة نائم طالبها ولم أر كالنار نائم هاربها , ألا وإنه من لم ينفعه الحق ضره الباطل ومن لم يستقم به الهدى جار به الضلال  ألا وإنكم أمراتم بالظعن ودللتم على الزاد.
ألا أيها الناس إنما الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر, وإن الآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قادر, ألا إن الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء, والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم.
أيها الناس أحسنوا في عمركم تحفظوا في عقبكم, فإن الله تبارك وتعالى وعد جنته من أطاعه, وأوعد ناره من عصاه, إنها نار لا يهدأ زفيرها, ولا يفك أسيرها , حرها شديد وقعرها بعيد وماؤها صديد وإن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل.  
خطب رضي الله عنه فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله ولزوم طاعته وتقديم العمل, وترك الأمل, فإنه من فرط في عمله لم ينتفع بشيء من أمله, أين التعب بالليل والنهار, المقتحم للحجج والبحار ومفاوز, يسير من وراء الجبال وعالج الرمال( ) <83>
يصل الغدو بالرواح, والمساء بالصباح في طلب محقرات الأرباح ، هجمت عليه منيته، فعظمت بنفسه رزيته، فصار ما جمع بورا، وما اكتسب غروراً، ووافى القيامة محسوراً.
أيها اللاهي الغارٌّ بنفسه، كأني بك وقد أتاك رسول ربك، لا يقرعِ لك بابا, ولا يهاب لك حجابا ولا يقبل منك بديلا, ولا يأخذ منك كفيلا, ولا يرحم لك صغيرا, ولا يوقر فيك كبيرا حتى يؤديك إلى قعر مظلمة أرجاؤها موحشة, كفعله بالأمم الخالية والقرون الماضية ! أين من سعى واجتهد, وجمع وعدد, وبنى وشيد, وزخرف ونجد, وبالقليل لم يقنع, وبالكثير لم يمتع؟ أين من قاد الجنود, ونشر الجنود؟ أضحوا رفاتا! تحت الثرى أمواتا, وأنتم بكأسهم شاربون, ولسبيلهم سالكون ؟
عباد الله! فاتقوا الله وراقبوه، واعملوا لليوم الذي تسير فيه الجبال! وتشقق السماء بالغمام، وتمطر الكتب عن الأيمان والشمائل، فأي رجل يومئذ تراك؟ أقائل هاؤم اقرءوا كتابيه! أم: يا ليتني لم أوت كتابيه! نسأل من وعدنا  بإقامة الشرائع جنته أن يقينا سخطه إن أحسن الحديث وأبلغ الموعظة كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد( ) .
<84>
<85>
الفهرس
مقدمة . . . .  . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 5
الفصل الأول الخطيب  . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 9
المبحث الأول: مكانة الخطيب ومنزلته . . . . . . . . . . . . . . . 13
المبحث الثاني: المقومات العقلية للخطيب . . .. . . . . . . . . . . 19
أولاً: حبه لأداء رسالته وإقباله عليها بشغف . .  . . . . . . . . . .21
ثانياً. عنايته بالثقافة والمعرفة في جميع فروعها. . . . . . . . . . . . 24
ثالثاً: معرفة قواعد وأصول الخطابة. . . . . . . . . . . . . . . . . 31
المبحث الثالث: المقومات الأخلاقية للخطيب . . . .. . . . . . . . 33
أولاً: حسن السيرة، وسلامة السريرة  . . . . . . . . . . . . . . . 35
ثانياً:الثقة بالنفس والجرأة في مواجهة المشكلات  .. . . . . . . . . 39
ثالثاً. الاهتمام بأصول الناس والمشاركة الوجدانية لهم .  . . . . . . 42
المبحث الرابع: المقومات البيانية للخطيب .. . . . . . . . . . . . . 45
أولا ما يتعلق بكلامه ونطقه . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 48
ثانيا: ما يتعلق بصوته . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 51
المبحث الخامس: المقومات الشكلية للخطيب . . .. . . . . . . . . 57
أولا: ما يتعلق بالملبس والهيئة ..  . . . . . . . . . . . . . . . . . 59
ثانياً. ما يتعلق بالإشارات والحركات  . . . . . . . . . . . . . . . 62
<86>
المبحث السادس: حاجة الخطيب إلى الممارسة والتدريب  .  . . . . 67
المبحث السابع: نماذج من خطب النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين كمنطلق للتدريب والممارسة .. . . . . . . . . . . . . . 73
أولا: من خطب الرسول صلى الله عليه وسلم . . . . . . . . . . . 76
ثانيا: من خطب أبي بكر رضي الله عنه . .  . . . . . . . . . . . . 78
ثالثا من خطب عمر رضي الله عنه . . . . . . . . . . . . . . . .  80
رابعا: من خطب عثمان رضي الله عنه . . . . . . . . . . . . . 81
خامسا: من خطب علي رضي الله عنه . . .. . . . . . . . . . . . 82
الفهرس . . .  . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 85
 

Share
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error:
إغلاق
إغلاق