مقالات متنوعـة

فوتوشوب للمجرمين

Share

فوتوشوب للمجرمين

 

فوتوشوب للمجرمين

عبده موته – الجزيرة – ابراهيم الأبيض… وغيرهم الكثير من رموز البلطجة والإجرام والتى انتفضت كقدوات للعقول الضعيفة فى الشعب المصري فتأثر بها  وآثرها على غيرهـــا ، مقال اعجبني عن تلك الظاهرة المريرة فى مجتمعاتنا ….

إنها من الظواهر الاجتماعية الغريبة في المجتمعات العربية، تلك الشعبيةُ التي حقَّقها عُتاة المجرمين وقطَّاع الطرق في مجالس بعض العامة، ممن يشتاقون لعصر ما قبل المدينة والقانون، حينما تستبد بهم النشوة، فيحكون – وهم يهزون رؤوسهم طربًا – عن ذلك المُلثم الذي يقطع الطرق الآمنة، ويَسلب ركابَ السيارت سياراتِهم وأموالَهم تحت تهديد السلاح، ويتركهم في الخلاء بعد أن استبدَّ بهم الرعب، أو هذا الذي قتَل رجل شرطة أثناء مطاردة بطلقة واحدة ما ضلَّت طريقها، وفرَّ كخفافيش الليل في قاع المدينة، وفشِلت جهود المطاردة في العثور عليه، أو فاجر تخصَّص في اصطياد الصِّبيان الآمنين إلى مُتعة سريَّة حقيرة عابرة، يلقي بعدها ضحيَّته إلى شمس الظهيرة والضياع، يشعر بالقهر والصدمة وعار التلوُّث الذي يلازمه للأبد، أو مُهرِّب حبوب مخدرة يُبدع في التسلُّل ببضاعته الحرام التي تدمِّر عقول شباب بلده، ولا يُفلح قصاصو الأثر في تعقُّبه، ولا تَردعه الرصاصات التي خرَّمت عربته، أو شاب شقي من شباب العائلة، جِيء به من بلدة الأهل مشمِّرًا لتأديب الجيران، فنكَّل بهم وروَّعهم، وأذاقهم الهوان، ورَدعهم ردعًا يضمن استكانتهم كلَّ سنوات الجوار القادمة.

 

وتحويل عُتاة المجرمين والبلطجية – الذين صُنِعوا بخلطة عجيبة من الاستعداد الشخصي، وسوء التربية، والبُعد عن الدين – إلى رموز جديرة بالذكر والتخليد – يستحق وقفةً اجتماعية جادة؛ إذ إن كل رجل كما يقولون: (دوَّخ الشرطة) إلى أن تمكَّنت من القبض عليه، أو التخلص منه أثناء تبادُل إطلاق النيران، هو رجل بالأساس عدو لله وعدو لمجتمعه، ولا يحمل في قلبه إلا خليطًا منفِّرًا من الحقد على الناس وعدم المبالاة بهم، وهو مصدر تهديد جاد للمجتمع، ما دام أنه مُطْلَق السراح، ومن سوء الكيلة أن يحكي الناس عن هذه النماذج بشيء من التعاطف مع المجرم، والتلميع لصورته الشوهاء، وشيء من اللامبالاة برجال الشرطة الشجعان، الذين يُعرضون أنفسهم للخطر من أجل أن يَبيت الناس آمنين في أسرابهم، بل وبشيء من اللامبالاة بالضحايا أنفسهم، إنه إعلاء لقِيَم العُدوان وفرْض السيطرة، يستحق أن يُحذف بشكل نهائي من قِيَم النُّبل وعلوم (المراجل)، التي يجب أن تُنقَّح مما شابَها من شوائب الجهل والجاهلية، كما ينقَّح حقل الحنطة من دخيل الزوان.

 

تحويل هؤلاء إلى رموز ملهِمة، من خلال المجالس التي يُحيي فيها العوام ذكرى أباطرة إجرام قضوا نَحبهم منذ عشرات السنين، ويهجرون سِيَر الشخصيات المنتجة التي تمضي لتترك أثرًا طيبًا من خلفها، من الباحثين الجادين، والدعاة الأبرار، والشباب الأبطال، الذين أنقذوا الناس في السيول الجارفة، والأطباء النابهين الذين تخصَّصوا في فصل التَّوائم، وعرَفهم العالم المتحضِّر، وذكرتْهم فهارس الأعلام، ونَسِيتهم حكايات المجالس التي يُقصَد فيها الشعر عن فحل إبلٍ وزَبَد فمه، أو أسمار المقاهي عن فحل من فحول الشرِّ، وعرق إبطيه في وقت غضبه، إن تحويل هؤلاء المجرمين إلى رموز ملِهمة من دون الأخيار – له أثر سلبي على الأجيال الصاعدة التي تتربى على هذه الحكايات، وتتشوَّق للعب دور البطولة الفارغة الذي سيحمل الاسم في الآفاق، وتتربى على أن السجن كما يقولون (للجدعان).

 

إن هؤلاء قد يفكِّرون يومًا ما في القتل إذا ما غضِبوا، ما دام أنهم اتَّكؤوا صغارًا في مجالس يُمدَح فيها القاتل الذي يجمع له الأقربون ما يعتقون به رَقبته من القِصاص، أكثر مما يُمدَح فيها التاجر الذي تكفَّل بكامل مبلغ الدِّيَة.

 

والمختصون الاجتماعيون في أقطار العالم العربي، الذين اقتربوا من حالات منحرفة في سن صغيرة، استمعوا لاعترافات ودوَّنوا ملاحظات، تؤكِّد انبهار هؤلاء كناشئة بما سمِعوه من سيرة نشامى الإجرام (الشنبات)، حتى اشتاقت نفوسهم لإكمال المسيرة والتفوق على الأساتذة؛ مِن فاتن ما تأثَّروا به من أباطيل الرعاع وأسمارهم، وثرثرة أصدقائهم المراهقين المهووسين، وكذلك ما تطوَّع الفنانون غير المسؤولين بحفظه من الصفحات السوداء للمجرمين عبر الفيلم والمسلسل، وما بقي إلا الأعمال الوثائقية!

 

لقد عرَف منتجو السينما وممثلوها أن هذه البضاعة تُروج لدى فئات من العامة، وتلمَّسوا بحسِّهم التسويقي حبَّ قطاع من العامة للعيش في جوٍّ إجراميٍّ عبر الشاشة، الفيلم يَعِد المشاهدين بمغامرة مثيرة، تلبي غريزتهم المريضة في التعرُّف عن كثبٍ إلى مجرمٍ رائع، سيشعرون بالتعاطف معه، وسيحزنون كثيرًا لسقوطه في آخر لقطة!

 

لذا قدَّموا أعمالاً غير مسؤولة، تُضفي شيئًا كثيرًا من هالات التمجيد على أشقياء مسجلين في سجلات الحكومة كخطِرين؛ مثل: فيلم (إبراهيم الأبيض)، الذي يخلِّد ذكرى أحد أشقياء الجيزة الشهيرين، وفيلم (الجزيرة) الذي يخلِّد ذكرى أسطورة من أساطير تجارة المخدرات بالصعيد، وفي هذين العملين وغيرهما، تجد البطل المجرم شهمًا وشجاعًا، وذكيًّا وعميقًا، وعند كلمته، وتجد أن رجل الشرطة عصبي وغبي وأناني، والمراهق الذي لديه استعداد فطري للانحراف، لن يفضِّل بعد أن يشاهد الفيلم أن يكون شرطيًّا، فهو يحب أن يوصف بالشهم الشجاع الذكي العميق.

 

إذًا يمكن النظر لهذه النوعية غير المسؤولة من الأعمال باعتبارها (حرابة فنية)، تُفرخ مجرمين جُددًا، مثلما أن التسامر بالإعجاب من فجرات وغدرات المجرمين هو (حرابة اجتماعية)، تؤدي نفس الغرض: تفريخ مجرمين جدد.

 

الواقع يكذِّب هذا الكلامَ الساذج المضلِّل عن شهامة المجرم ووفائه إلى آخره، وكل من احتكَّ بالمجرمين من الأسوياء احتكاكًا حقيقيًّا، يعلم أن الصورة التي تقدِّمها السينما وكذلك المسامرات للمجرم، هي شغل (فوتوشوب) اجتماعي في منتهى الخطورة والبلاهة، فالمجرم الذي عتا في إجرامه أبشع من ذلك بكثيرٍ، ولو علِم الله فيه خيرًا، ما سلَّمه لهذا الطريق، أو كتَب له التوبة من بعد ذلك، ولو تاب المجرم، فإنه ينظر لتاريخه السابق باشمئزازٍ وقرف، في الوقت الذي نجد فيه بعض العامة يترجَّونه ألا يتهرَّب ويتصدَّق عليهم بشيءٍ من مغامراته الجميلة، وهذه مفارقة غريبة جدًّا تؤكِّد أن توبة المُجرم عن إجرامه أسهلُ من توبة بعض الناس عن التمتُّع بسيرة الإجرام.

 

صفحات الإجرام التي سطَّرها المجرمون بشمالهم، يقلبها بعض العامة بانتشاء وتقديرٍ واغتباط، كأنهم لا يدرون أن تلك الصفحات هي جنايات وشكايات ومظالم مرفوعة إلى رب العباد، صفحات ملطَّخة بدم الأبرياء من المواطنين ورجال الشرطة، وملطخة بدموع اليتامى والأرامل، وصورة المجرم النبيل السخي الشهم، هي من عمل برنامج (فوتوشوب) شيطاني، يعمل في رؤوس العامة على تزيين ما قبَّحه الله والعُرف والقانون، وقد آنَ لنا أن نُنقِّي الثقافة العربية من هذا البرنامج وفيروساته التربوية المدمرة.

__________________
أ. محمود توفيق حسين
Share
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error:
إغلاق
إغلاق